عندما يمتدح مدير “سي آي إيه” بؤس الصحافة المصرية
مع أنني وغيري نعلم بؤس أحوال الصحافة والصحفيين في مصر، فقد انتظرت ردًّا على ما نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية في نسختها الإنجليزية الإلكترونية يوم 30 من أغسطس/آب 2024.
وكان هذا الانتظار عبثًا مزيجًا من التزام الصحفي بالتحقق من صحة المعلومة، وأخذها في سياق ردود أفعال كل الأطراف المعنية بها، والتشبث ببصيص أمل أن تنتفض جهة ما في القاهرة لتزود عن سمعة الصحافة المصرية وصحفييها، ولو نقابة الصحفيين أو هيئة الاستعلامات الحكومية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعام من البلطجة الإسرائيلية.. وماذا بعد؟
ما بين الاقتصاد اللبناني والإسرائيلي!
إيران تودع الصبر الاستراتيجي!
وهذا مع العلم بأن ما نشرته “أحرونوت” يتعلق بالمفاوضات الصعبة مع الرؤوس الحجرية الإجرامية لنتنياهو وعصابته حول مصير محور فيلادلفيا بين سيناء وقطاع غزة، وفي الصميم من الأمن القومي لمصر ومصالح المصريين.
ما هي حكاية الحقيقة الإساءة؟
تحت عنوان “مصر لن توافق على وجود إسرائيلي بطول محور فيلادلفيا”، نشرت الصحيفة لمحررتها الإسرائيلية الشقراء “سمادر بيري” تصريحات حصلت عليها من “مسؤول مصري رفيع”، وإن لم تحدد هل الاتصال كان هاتفيًّا وعبر وسائل الاتصال الاجتماعي، أو بلقاء مباشر؟ وأين؟
على أي حال، فالعنوان مطمئن بعض الشيء، لأنه وما بعده من مقدمة ومتن يفيد جميعًا بأن “المسؤول الرفيع المستوى” اتخذ موقفًا سلبيًّا من نشر قوات الاحتلال الإبادي أخيرًا معدات مراقبة على الحدود مباشرة، وبالمخالفة للاتفاقات بين حكومتَي البلدين ومع السلطة الفلسطينية برعاية أمريكية وأوروبية، ولأن الحدود هي مصرية فلسطينية.
ونأتي إلى بيت القصيد، حيث نقلت “سمادر” عن “المسؤول المصري الرفيع” أن مدير المخابرات الأمريكية ويليام بيرنز امتدح الميديا المصرية لتجنبها “التطفل” على المفاوضات، التي شارك فيها بالقاهرة مع نظرائه قادة المخابرات المصرية والإسرائيلية. وجاء هذا في سياق قول هذا المصدر لـ”أحرونوت” أن بيرنز نصح المفاوضين بعدم تسريب أي تفاصيل عما يجرى للصحافة.
صحافتنا في ميزان مدير المخابرات الأمريكية
أولًا.. لا بد من الاعتراف والإقرار، مع شديد الأسف والأسى، أن امتداح مدير المخابرات المركزية الأمريكية للصحافة والميديا المصرية في محله، ولا يصدر عن تمنٍّ أو جهل بواقع بؤس أحوالها.
فالرجل يعلم بما جرى ويجري في مصر من واقع خبراته الدبلوماسية السابقة عن الشرق الأوسط، وأنماط الأنظمة الحاكمة وخصائصها غير الديمقراطية المعادية لتداول المعلومات ونشرها، ولاطلاعه على تقارير ومعلومات المخابرات التي يترأسها منذ مارس/آذار 2021.
ثانيًا.. لأن أطروحته في دكتوراة العلاقات الدولية، التي نوقشت عام 1985، كانت عن مصر، وعنوانها “المعونة الاقتصادية والسياسية الأمريكية لمصر 1955-1981”. وهذا ولو لم تكن بأهمية ومصداقية أطروحة دكتوراة، فكتاب مواطنه “جاسون برادلي” المتفهم والمتعاطف مع الشعب المصري، وبالإنجليزية بعنوان “منع الديمقراطية في مصر: سياسات التحالف بين الولايات المتحدة ومصر”، ومترجمًا للعربية بالقاهرة إلى “إجهاض الديمقراطية في مصر: الحصاد المر للعلاقات المصرية الأمريكية في أربعين عامًا”. ولحسن الحظ هناك عرض للكتاب بصحيفة “الأهرام” بتاريخ 17 من سبتمبر/أيلول 2014، ولعله مر من “سم الخياط”.
ثالثًا.. لأن ما يشير إليه كلام “بيرنز” لا يختلف عما يعلم المتخصصون وآحاد الناس، ممن يطلعون على تقارير المنظمات الدولية المعتبرة بشأن حرية الصحافة والصحفيين وسلامتهم. وقد انتهت إلى تدهور ما هو متدهور أصلًا منذ 1954. وقد أصبح ترتيب مصر بحلول مايو/أيار هذا العام 170 من بين إجمالي 180 دولة، وفق “مراسلون بلا حدود، ومتأخرة عن الدول الإفريقية غير العربية كافة، وكل الدول العربية عدا البحرين وإرتيريا. وللأسف بعدما تقدمت إلى المرتبة 127 من إجمالي 178 دولة في عام 2012، وفق التصنيف السنوي العالمي نفسه.
أما رابعًا، فلسنا بحاجة إلى تنبيه أو شرح عن كيف يجري تعامل سلطات الدولة مع حق استقاء الأنباء وتداولها، وتعدد مصادرها، والسعي للتأكد من صحتها ودقتها ونشرها، وبالنسبة لسيناء بالأخص، وتحت عناوين مثل “الحرب على الإرهاب” و”حماية الأمن القومي”.
وهذا إذا تغاضينا عما هو معلوم عند أهل مهنة الصحافة في العالم عن انتظار زملائهم المصريين ورؤساء تحريرهم تعليمات “السامسونج”، أو تلقي البيانات على “واتساب”، وحتى بشأن جلسات وقرارات المحاكم والنيابات والوزارات، وربما مكاتب المحافظين ورؤساء المدن! وهكذا لم يعد لدينا لا مؤتمرات صحفية، ولا انفرادات إخبارية، ولا تغطيات إخبارية متميزة، ولا حوارات، ولا تصريحات خاصة لصحفي مجتهد. وكفى الصحفيين عناء الانتقال من المكاتب أو المنازل، أو حتى الاتصال هاتفيًّا بالمصادر.
ما كان في أيام خوال
لا يجوز خداع الجمهور بزعم أن الصحافة والصحفيين في مصر كانوا يؤدون من قبل واجباتهم تجاهه على ما يرام، ويعطونه حقوقه، ويخدمونه باحترافية وصدق، وبالتمام والكمال.
يعلم أهل المهنة على مدى عقود وأجيال الصفات والمحددات المطلوبة في اعتماد وقبول واستمرار “المحرر الدبلوماسي” ومندوبي الصحف لدى “رئاسة الجمهورية” ووزارة الخارجية وغيرها مما تسمى “الوزارات السيادية”، وحتى بمقر الجامعة العربية بالقاهرة.
وهذا عدا من رحم ربي، ممن كان بإمكانه الإفلات من شباك التزام السلوك النموذجي للصحفي المطواع الذي لا يحرج المصدر الرسمي بنشر معلومة بدون استئذان أو خارجة عن المحظور، أو بانتقاد مسؤول أو سياسات ومواقف وإجراءات تمس حقوق الناس ومصالح البلاد. وهو إفلات ظلت تنظر إليه المصادر المسؤولة والرسمية/ السلطات بأنه “انفلات” يستحق العقاب، والإبعاد عن مصادر الأنباء، والحرمان من الاقتراب منها، ودخول دوائرها، ولو الجغرافية المكانية. وكل خروج عن هذا لدى المخضرمين في المهنة عليه حكايات تُروى، ومن أجل الإبقاء على الانتكاس من “الصحفي” إلى “مندوب أو “وكيل الدعاية” عند المصادر الرسمية، وبما فيها بالطبع تلك المتصل عملها بالشؤون الإقليمية والدولية وقضايا الأمن القومي.
ولاحقًا جاء ما هو أسوأ، ليحسم ما كان استثناءً من هوامش صراع بين الصحفيين والمصادر الرسمية للخروج على هذا الواقع البائس.
*****
مؤلم ومؤسف امتداح مدير المخابرات المركزية الأمريكية بؤس أحوال الصحافة المصرية وصحفييها، في هذه الفترة البالغة الأهمية والحساسية لمصر وفلسطين والمنطقة بأسرها، وأيضًا للسلام العالمي. لكن بقدر الألم والأسف، فالرجل لم يقل إلا حقيقة الحال، وإن لم تأت في صيغة التصريح المباشر للصحافة الأجنبية والإعلان المباشر عنها.
يكفي أن نسأل أنفسنا: كم من الصحفيين المصريين يشعرون بالإهانة والغيرة اليوم، وهم يغبطون قدرة “سمادر” و”أحرونوت” في النفاذ إلى مصادر المعلومات والأنباء، والحصول على تصريحات خاصة من “مسؤول مصري رفيع المستوى”، بشأن حدث يجري على أرض مصرية، فضلًا عن النشر؟