طالت الحرب وقامات صمودنا أطول
“أفضّل أن أرى لندن مدمرة على أساسها على أن أرزح تحت العبودية”.. هكذا ألهم تشرشل الآلاف وهو يحثهم على الصمود تحت غارات القصف الجوي المرعب والمدمر لقوات هتلر على لندن.
ولا عجب فهو من بدأ خطابه أمام مجلس العموم البريطاني قائلًا في أدق الأوقات العصيبة التي مرت بها بلاده ومن حولها أوروبا في مايو/أيار 1940 “ليس لديَّ ما أقدمه سوى الدم والدموع والعرق” ثم تابع اللورد العجوز الذي حافظ على كبرياء بريطانيا في أكثر أوقاتها حرجًا “لن نستسلم ولن نخسر، سنقاتل حتى النهاية، في البحر، في الجو، وسنواصل القتال من أجل أرضنا مهما كان الثمن، بكل قوتنا وبكل وسعنا، وكل القوة التي يمكن أن يمنحها الله لشن حرب ضد طغيان وحشي، لم يتم تجاوزه في كتالوج الجرائم البشرية المظلمة”.
اقرأ أيضا
list of 4 items“نعيم قاسم” و”أبو عبيدة”.. هل تعافى حزب الله؟
لهذه الأسباب.. لا ترد سوريا!
«المقاطعة» تكشف هشاشة دعم الشركات لإسرائيل
وبصمود تشرشل مع شعبه ورفضه الاستسلام وتمسُّكه بأن يخوض الجيش معركته، نجح الرجل بالفعل وتراجع هتلر في حين ربح تشرشل جولته الأولى، واستمر الأمر في رحلة الصمود والعمل حتى ربح الحرب، والأمر لم يكن نتاج صدفة، أو من فراغ فهو يقول في مذكراته:
“الحرب ليست مجرد سلسلة من المعارك، إنها اختبار للصبر والتحمل، لقد واجهنا ليالي طويلة من القصف، وأشهرًا من الانتظار دون أن نرى أى نهاية تلوح في الأفق، ومع ذلك، كان علينا أن نتذكر دائمًا أن الحرب طويلة وشاقة، وأن الصمود لا يكون في ساحة المعركة فقط، بل في القلوب والعقول التي تؤمن بالحرية والعدل”.
غيمت الحرب وتتلألأ الصمود
طالت الحرب، وكثرت التضحيات، وتتابعت الأهوال، وبرزت البطولات، وبمقدار ما اشتد البأس تلألأ الصمود وتجذر التشبث بالأرض، وبمقدار ما انكشف من قبح الوجوه تباينت الصفوف، واتسعت الهوة بين شعوب انحازت إلى المقاومة وأنظمة اصطفت خلف خطوط العدو فانهزمت معه عسكريًّا، وسقطت في عين شعوبها سياسيًّا وأخلاقيًّا.
لقد فشلت إسرائيل سياسيًّا وعسكريًّا في تحقيق أهدافها التي أعلنتها بعد عملية طوفان الأقصى، وكان على رأسها تحرير الأسرى وضمان عدم قدرة حماس على شن هجمات في المستقبل، واستعادة ثقة الإسرائيليين بقدرة حكومتهم وجيشهم على توفير الأمن لهم، إضافة إلى إعادة تأسيس قوة الردع الإسرائيلية بنظر الأصدقاء والخصوم.
وكما هو واضح لم يتحقق أي من الأهداف السابقة، كما لم يتحقق حتى البند الأخير خصوصًا بعدما ظهر أخيرًا من وصول الصواريخ فرط الصوتية إلى قلب تل أبيب بعد أن فشلت منظومة القبة الحديدية في التعامل معها باعتراف القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين أنفسهم، وهو ما تسبب في ارتباك كبير، وأدى إلى إعادة حساب موازين القوى حال شن حرب كاملة على الأراضي اللبنانية، وهو الأمر الذي يسعى إليه بنيامين نتنياهو لضمان عدم توقف الحرب وكسب وقت أطول في الحكم.
تضحيات كبيرة ولكن
من ذا الذي يلهم أهالي الضحايا والمصابين والمفقودين والمشردين الصبر جراء ما فقدوا غير الله، (إنها الحرب، قد تثقل القلب، ولكن خلفك عار العرب) كما يقول أمل دنقل، فهناك أشياء إذا تجاهلها الإنسان قد يربح السلامة، ولكنه حتمًا سيخسر شرفه، ومن تلك الأشياء تقاعسه عن نيل حريته وتحرير أرضه، فهناك معارك لا بد أن تخوضها، وفي ذلك يقول أحمد شوقي:
الحربُ لا بدَّ منها
وإنْ أباها الأنام
حقيقةٌ وضعوها
فليسَ فيها كلام
صحيح أن تضحيات الأبرياء قد صُفت على جانبَي طريق الحرب، خاصة وأن خسة العدو وحقارته تعمد إلى تعويض الهزيمة العسكرية في الميدان بالولوغ في دماء النساء والأطفال والأبرياء، ولكن العزاء أنه لا حيلة مع قضاء الله وقدره، وأن مصيرَي قتلانا وقتلاهم لا يستويان.
كما أن معركة التحرير هي معركة واجبة شريفة وأهدافها نبيلة، خاصة وأن البديل لحروب التحرير ومقاومة المحتل هو البقاء تحت نير العبودية والاحتلال، وانتظار مزيد من التقسيم والنهب ومحو الهوية والاتجار في القضية خصوصًا مع وجود أنظمة عربية كانت تتآمر قبل عام فقط لطي أوراق القضية.
ولذا ليس أمام شعب غزة ومقاوميها ومحورها المقاوم إلا التشبث بالأرض والصمود والثبات والمقاومة مع التحلي بالإيمان والأمل.
يقول الشاعر أحمد محرم:
فلا يأسٌ إذا ما الحربُ طالت
مِن النصرِ المُرجَّى في الختامِ
فإمّا العيشُ في ظلِّ المعالي
وإمّا الموتُ في ظلِّ القَتامِ
هيَ الأوطان إن ضاعت رضينا
مِن الآمالِ بالموتِ الزؤامِ
حصاد الصمود
إن طول مدة الحرب ليس فقط اختبارًا لقوة المحاربين العسكرية على الأرض، لكنه مقياس لإرادة الشعوب وقدرتها على الصمود، فالصبر من أبواب النصر في الحروب، فعلى الرغم من الاستنزاف والخسائر البشرية والمادية والنفسية فلا يمكن جني أى ثمار مرجوَّة ولا تحقيق أهداف الحرب إلا بالصمود.
يقول المشير الجمسي في مذكراته “كانت حرب الاستنزاف بكل متاعبها وخسائرها التي لحقت بنا في الأفراد والمعدات هى البوتقة التي صهرت المقاتل المصري وطورت خبراته، وعالجت جروحه النفسية والمعنوية العميقة التي تركتها فيه هزيمة يونيو 1967، وهي برغم ضراوتها والأضرار المادية والعسكرية والاقتصادية التي تحملناها، فإن نتائجها الإيجابية كانت عظيمة الفائدة بعيدة الأثر في التمهيد للنجاح الذي تحقق في حرب أكتوبر 1973).
ولعل أكثر أرباح الصمود تجنيها غزة على الجانب الآخر داخل الأراضي المحتلة نفسها، فالعدو الإسرائيلي نفسه بُنيت استراتيجيته العسكرية على اعتماد استراتيجية الحرب الخاطفة وتجنب حروب الاستنزاف الطويلة، وهو الأمر الذي يعانيه مع طول الحرب وصلابة الصمود، وقد أشار السنوار في خطابه الأخير إلى ذلك، كما بُنيت استراتيجيته على نقل المعركة إلى أرض الخصم، وإبعاد نيران القتال عن العمق الإسرائيلي، وهو الأمر الذي فقده منذ بداية الحرب حتى الآن.
ومن تلك الاستراتيجيات أيضًا التمسك بعنصرَي المبادأة والمفاجأة اللازمتين لتحقيق الضربة الاستباقية الخاطفة، وهو الأمر الذي لم يتحقق أيضًا مع مباغتة حرب طوفان الأقصى الخاطفة.
ولا تنحصر خسائر إسرائيل عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا ودعائيًّا واجتماعيًّا فقط، بل يمتد الأمر إلى داعميها، وهو ما وصل إليه إسحاق رابين في مذكراته، إذ قال “كلما طالت الحرب ازداد انقراض الموقف الأمريكي في الشرق الأوسط”.