«الجزيرة» التي هزمت نتنياهو في الأمم المتحدة

المقاعد فارغة بينما نتنياهو يلقي كلمته (رويترز)

يقال في نظريات الإعلام الكلاسيكية إن الصورة بألف خبر، لأنها لا تقع في أزمة “التباس الرموز اللغوية” التي تتأثر بها الكتابة، كما لا تخضع لأهواء الكاتب، الذي لا يمكن إلّا أن ينحاز.

الصورة موضوعية على الدوام، وصادقة محايدة مجردة، تنقل الحقيقة كما هي من دون تلوين أو تزويق، ما يتيح للمتلقي أن يصدر أحكامه ويحدد مواقفه.

أشهر صورة غيَّرت مسارات التاريخ، كانت صورة “طفلة النابالم” في حرب فيتنام، وظهرت فيها بنت فيتنامية في نحو التاسعة، مصابة بحروق بشعة، وتجري عاريةً باكيةً، إثر تعرّضها لقصف بالقنابل المحظورة دوليًّا، من قِبل الجيش الأمريكي.

وخزت الصورة الإنسانية بعمق، فتأججت المظاهرات المناهضة للحرب في الولايات المتحدة، حتى أُرغم صُنَّاع السياسة أو بالأحرى صُنَّاع الموت الأمريكيون، على وقف العدوان بعد عشرين عامًا من المجازر.

واليوم، في الحرب الإجرامية الإسرائيلية على غزة ولبنان، لا يتراجع دور الصورة أيضًا، ولعلها تُغيِّر التاريخ بدورها، لكن ليس على الطريقة الفيتنامية، من حيث الوتيرة المتسارعة، بل بهدوء متأنٍ تراكمي.

لدى إلقاء مجرم الحرب نتنياهو خطبته في الأمم المتحدة، كانت الصورة عبر قناة الجزيرة في قلب الحدث، إذ انقسمت الشاشة إلى ست خانات، لتبث المشاهد من ميادين المعركة العسكرية والدبلوماسية.

كان نتنياهو يتحدث فيُبعثِّر الأكاذيب عن الحرب الوجودية التي تخوضها دولة الاحتلال، ضد قوى الشر والبربرية، ويكرر السردية الإسرائيلية التي باتت مفضوحة متهافتة أمام الضمير العام العالمي.. هذا شيء من الصورة.

في خانة ثانية من الشاشة، ها هي قاعة الأمم المتحدة تكاد تكون خاوية على عروشها، لقد انفض عديد من ممثلي الدول عن الأكاذيب الصهيونية، بعد عاصفة هتافات استباقية واستنكارية ضد نتنياهو، الذي يبدو في حيص بيص، شاحبًا ممتقعًا ترتسم على محياه علامات التوتر، كلص وقع بين أيدي رجال الشرطة، متلبسًا بجريمته.

ليست مبالغةً أن العالم تغيَّر، تلك أبرز مكتسبات طوفان الأقصى، أخيرًا يُستمال الضمير العالمي إلى الحقوق العربية المشروعة.. وهذا شيء ثانٍ من الصورة.

وفي خانة ثالثة، ثمة فلسطينيون يدفنون ذويهم شهداء الغارات الإسرائيلية، إذن ها هي ثلاثية المأساة، وبها تكتمل فسيفساء الصورة.

وفي الرابعة مشاهد من جنوبي لبنان، حيث تنهمر الصواريخ الإسرائيلية، وفي الخامسة حشود لجنود إسرائيليين على الحدود، حيث يتأهبون لغزو هذا البلد العربي الذي وضعته جغرافيته أمام فوهات المدافع، وفي السادسة تبدو المستوطنات والمدن الإسرائيلية حيث يخيم الرعب، تحسبًا لرشقات صاروخية قد تأتي من جبهة لبنان، أو من الجبهة اليمنية بعدما أعلن الحوثي أن رشقات الصواريخ الباليستية ستتابع، ما لم تكف إسرائيل عدوانها على غزة وجنوبي لبنان.

لم تعد الأراضي المحتلة آمنة لسارقيها، الذين جاؤوا من كل فج عميق، هربًا من محارق أوروبا، وتوقًا إلى الأمان على “أرض موعودة”، وقد عرفوا ذلك.. وهذا شيء من الصورة أيضًا.

نتنياهو.. “قالوا للحرامي احلف”

دع عنك بعدئذٍ ما سيقال من تحليل مضمون خطبة نتنياهو، الذي بدا كمجنون ملتاث يحدّث نفسه في مقر المنظمة الأممية، فالمعلوم أن من الصعب أن يعترف المجرم بالحقيقة، أو كما يقول المثل الشعبي المصري: “قل للحرامي احلف يقول جاءك الفرج”.

لا أحد يصدّق الحرامي ولا نتنياهو، سقط القناع عن القناع، كما يقول شاعرنا محمود درويش.

من الأمم المتحدة، نرجع إلى الوراء قليلًا، حيث دهمت قوات جيش الاحتلال مقر مكتب الجزيرة في رام الله، لتنفيذ قرار عسكري بإغلاقه ووقف نشاطه 45 يومًا.

في تأصيل المشهد يجوز أن ننظر المرجعيات التي تأسست عليها دولة الاحتلال، كما يسردها الفيلسوف الفرنسي الراحل رجاء غارودي، في كتابه “الأساطير المؤسساتية لدولة إسرائيل”، إذ يقول: “إسرائيل تأسست على أسطورتَي المظلومية، وحق اليهود في أرض فلسطين التي هي أرض بغير أصحاب”.

مع بداية طوفان الأقصى لم تتورع إسرائيل عن اقتراف أفحش الجرائم ضد الصحفيين، وبلغ عدد شهداء البحث عن الحقيقة حسب أقل التقديرات 180 شهيدًا، هو الرقم الأفدح في جميع الحروب التي شهدتها البشرية، وكان للجزيرة نصيب الأسد من الضحايا، وكان ذاك الإجرام يستهدف عدم خدش الأسطورتين.

لا أريد الاستغراق في مديح الجزيرة، أو في المضي قدمًا في الإشادة بتغطيتها، وأنا أكتب على موقعها، لكني أطرح الفرضية؛ تخيّل لو لم يكن مراسلو الجزيرة بقلب المعركة في فلسطين ولبنان.

غني عن البيان أن سردية إسرائيل كانت ستسود، في ظل ما نعلمه عن “حياد الإعلام الغربي”؛ صاحب أكاذيب قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وما نعلمه كذلك من خلو فضاءات البث من صوت عربي ذي أثر، ناهيك عن الفضائيات العربية لسانًا، والعبرية خطابًا وهوًى وتوجهًا.

لماذا مزق جنود الاحتلال صور شهداء الحقيقة؟

ما إن دلف جنود الاحتلال، مدججين بالأسلحة الأمريكية، مكتب الجزيرة، حتى هرعوا كأن بهم لوثة، لانتزاع صور شهداء القناة من على الجدران.

لم يتصرفوا بمقتضى أوامر من القادة على الأغلب، بل كانوا يستهدفون الصورة، ربما بطريقة لا شعورية، فكراهية الحقيقة من أبرز خصائص المجتمع الاحتلالي بأسره، وبالتأكيد لأن القاتل الدنيء لا يرتاح لرؤية دليل إدانته.

كان المشهد موحيًا؛ إن إسرائيل مهزومة في حرب الصورة؛ الحرب الموازية للأعمال القتالية، ذات التأثير الذي يقل عنها أهمية.

الذين يؤثمون طوفان الأقصى، فيتشدقون بأنه كان تصرفًا أهوج غير محسوب العواقب، لا يرون أو لعلهم لا يريدون رؤية هذا الجانب.

إسرائيل كذبة، ولا يحتاج تبديد الأكاذيب أكثر من “الصورة”، التي صنعت الوعي، الذي دفع بدوره ممثلي الدول في الأمم المتحدة، إلى استقباح حضور سفاك دماء بينهم، إلى درجة أنهم هتفوا ضد كلامه قبل ينطق به.

أكرر الفرضية؛ تخيّل لو لم يوجد مراسلو الجزيرة بقلب المعركة في فلسطين ولبنان.

منذ تأسست إسرائيل وهي تطارد المنصفين من أصحاب الضمير، الذين ناهضوا جرائمها، ورفضوا ما تمثله من انحطاط أخلاقي بفزاعة معاداة السامية، فكممت أفواه باحثين، وقطعت أرزاق علماء ومفكرين، ورفعت قضايا ضد مؤرخين وصحفيين، فهل بوسعها اليوم أن تشهر “فزاعة السامية” لمواجهة الصورة؟

لقد انتصرت عدسة الجزيرة على نتنياهو والذين معه، في معركة الحق والباطل.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان