التعليم الجامعي الخاص يتغول على الحكومي.. هل يستدير الزمن؟

امتحانات الثانوية العامة التي تحدد مصير الطلاب (منصات التواصل)

حصلت على تعليم مجاني حتى نيل الشهادة الجامعية، وعندي ولدان يدرسان في التعليم الجامعي الحكومي، وابنة تدرس في التعليم الجامعي الخاص، ولم أكن أود ذلك، فالمصروفات كبيرة، وكان مكتب التنسيق الجامعي وقف حائلًا دون التحاقها بما تريده لانخفاض درجاتها بسبب تعقيدات امتحانات الثانوية، والتربص بالطلاب.

مع هذا يظل مكتب التنسيق بمصر ميزان العدل الوحيد حتى اليوم في تنظيم توزيع الطلاب على الكليات وفقًا لدرجات القبول بها.

وإذا لم يكن هناك مكتب تنسيق، وكان القبول خاضعًا لتنسيق خاص بكل كلية، فربما لم يكن ولداي قد التحقا بالكلية التي يدرسان فيها، وربما أنا أيضا لم أكن قد دخلت الكلية التي تخرجت فيها عام 1988، فهناك آفة متوطنة هي الواسطة والمحسوبية والنفوذ والعلاقات الخاصة حتى في العلم والتعليم.

وعلى ذلك فإن الطالب الذي تتوفر له هذه الوسائل البغيضة سيجد طريقه واسعة للالتحاق بأي كلية، بينما المجتهد سيظل يدور حول أسوار الجامعة باحثًا عن باب لدخولها رغم أن مجانية التعليم الحكومي لا تزال قائمة، لكنها تتآكل تدريجيًّا بهدوء، في حين يتغول التعليم الخاص، واليوم من يمتلك المال بمقدوره أن يلتحق بما يشاء من كليات.

النزاهة والفساد

لست ضد التعليم الخاص؛ سواء كان عامًّا أو جامعيًّا، ولست ضد النشاط الاقتصادي الخاص عمومًا، والعُقدة هنا ليست في فكرة وفلسفة القطاعات الخاصة بقدر ما هي في البيئة العامة والمنظومة السياسية والمجتمعية الانضباطية والأخلاقية والمعايير والرقابة الجادة التي تعمل فيها الأنشطة الخاصة لكي تتحقق فيها شروط الحوكمة والعدالة.

ميراث الفساد الشامل الذي يتراكم ولا يجد وسيلة للقضاء عليه هو جوهر العُقدة في العمل الخاص، وكذلك في النشاط العام.

يصعب تصور قبول طالب في كلية لا يستحقها في مجتمعات أكاديمة تسودها التقاليد العلمية والبحثية الرصينة والنزيهة والشفافة والمنضبطة والأخلاقية والقانونية، بينما يتم الإطاحة بهذه القيم في مجتمعات شيوع الفساد وازدهار العلاقات والمنافع والمصالح الخاصة.

والإطار العام الذي يوفر التنافس العادل عند الانتماء للمجتمعات العلمية هو المنظومات السياسية الديمقراطية الحرة التي تخضع للرقابة الدستورية والقانونية والبرلمانية والأهلية، فهل يتوفر لدينا شيء من ذلك حتى نطمئن لعدالة التنافس ودقة الاختيار وتساوي الكل أمام قواعد صارمة في مختلف العلاقات والمعاملات؟

مبدأ العدالة

منبع المشاكل كلها واختلال الموازين العامة في العلم والتعليم والتوظيف والفرص وفي كل مجال ونشاط هو إهدار مبدأ العدالة، وضياع قيم المساواة والنزاهة والشفافية وسقوط الضمائر والأخلاق، وغياب دولة القانون والرشاد في كل شيء.

ومن أسباب تقدم الغرب على الشرق، وخاصة العالم العربي والإسلامي، سيادة القيم الإيجابية العادلة عنده، فهناك لا مكان غالبًا للقيم السلبية المدمرة للإنسان والقاتلة للأمل والدافعة لليأس، وربما الانتحار.

نعم الانتحار، ولدينا واقعة معروفة لشاب مصري متفوق حصل على شهادته من كلية مرموقة ولمّا تقدم لوظيفة جيدة لم يقبلوه بحجة عدم اللياقة الاجتماعية، أي أن عائلته من بسطاء الناس، وجلس مكانه من يتمتع بالحظوة.

مشكلة أي مجتمع في التقسيم الطبقي والفئوي وفقًا للمناصب والثراء والنفوذ، والمجتمعات العربية كلها كذلك، ونجاح المجتمعات في كل بلد يتقدم مستندًا على مبدأ العدالة، يكمن في الخلاص من الفوقية والإرث العنصري التمييزي البغيض.

لهذا أصبح الشاب الأسود أوباما رئيسًا لفترتين لأمريكا أقوى دولة في العالم، وتقلد سوناك رئاسة حكومة بريطانيا العظمى، وهو من أصول هندية، وسبقه جونسون الذي ينتمي للشركس في تركيا، وعمدة لندن صادق خان من أصل باكستاني، وكامالا هاريس المرشحة لرئاسة أمريكا من أصول آسيوية إفريقية، والرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي ابن مهاجر مجري، وقادة حكم في أمريكا اللاتينية أصولهم عربية، والقائمة طويلة ودالة على أن الإنسان بعلمه وكفاءته وليس بشيء آخر.

الخاص والأهلي

بديل مكتب التنسيق الذي يمنع التحاق أصحاب الدرجات الأقل من الحد الأدنى للقبول، بالجامعات الحكومية وما يُسمى كليات القمة، هو الجامعات الخاصة والأهلية اليوم، وعددها 52 جامعة (32، 20 على الترتيب)، وهي تضم مئات الكليات في مختلف التخصصات، ومصروفاتها كبيرة، والإقبال عليها هائل ومثير.

هناك أيضًا 10 جامعات تكنولوجية، و9 أفرع لجامعات أجنبية، و6 جامعات باتفاقيات دولية، وجامعتان باتفاقيات إطارية، وجامعة بقوانين خاصة، وما يزيد على 150 معهدًا خاصًّا، والعدد مرشح للزيادة في القطاع التعليمي الخاص، وكل ذلك على حساب التعليم الجامعي الرسمي الذي تتقلص نسبته تدريجيًّا أمام طوفان التعليم الخاص.

ولا نستبعد أن نجد القاعدة في التعليم الجامعي صارت التعليم الأهلي والخاص، إذ كما بدأ أهليًّا وخاصًّا بمصروفات عام 1908 عندما انطلقت أول جامعة في مصر، جامعة فؤاد الأول وهي جامعة القاهرة حاليًّا، فإن الزمن قد يستدير ويعود التعليم إلى سيرته الأولى ليكون بمصاريف، ومن يدفع يتعلم ويحصل على شهادة جامعية، والفقير يكتفي بما درسه من تعليم متوسط وعام.

والدولة نفسها دخلت، عبر جامعاتها الأهلية الـ20 حتى الآن، مجال التعليم بمصروفات كبيرة، علاوة على برامج مدفوعة في الكليات الحكومية نفسها.

والمشكلة هنا أن الطالب المتفوق الفقير قد لا يتمكن من دراسة ما يريده، بل قد يُحرم من مواصلة تعليمه الجامعي، أما الطالب الثري فإن المجال سيكون مفتوحًا أمامه للتعليم كما يشاء، وهنا قد نعود إلى ما قبل إتاحة التعليم الجامعي مجانًا عام 1962، حيث كانت هذه المرحلة التعليمية رفاهية.

لولا التعليم الحكومي، لما استطعت أنا وملايين آخرون دخول الجامعة، لهذا نتمسك بالتعليم الرسمي؛ العام والجامعي، وعدم المسّ به، أو تقليصه بخبث لصالح التعليم الخاص الذي لا نرفضه، ولكن لا ينبغي تحوّله إلى سلعة واستثمار تجاري لمن يدفع، فالتعليم للجميع هو المنقذ الأكيد للأوطان من الضياع.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان