محمود الخضيري.. القاضي مع الشعب وزيارة وداع

القاضي المصري الراحل محمود الخضيري (منصات التواصل)

هذا الصيف، قمت بزيارته في منزله بسيدي جابر بالإسكندرية مداويا لوم النفس لتأخري عنها، بعد خروجه في 4 ديسمبر 2019 من حبس استمر ست سنوات. وهذا مع إنني كتبت دفاعا عنه في “الأهرام” يوم 24 يونيو 2014 في مواجهة حملة تشهير وافتراءات لتبرير اتهامات وتحقيقات ونيابات ومحاكم وسجون ضد بلا رحمة رغم تقدمه بالسن وتكالب الأمراض، وبلا اعتبار لدوره من أجل قضاء عادل مستقل.

ولا أعرف هل كنت حين كتبت على وعي بأن ” عملية اصطياد وأسر” هذا الأسد الأبي العجوز، وبما له من مكانة مقدرة، بمثابة مقدمة لحملة انتقام بلا حدود ضد ثورة يناير، ومن إرهاصاتها وحلم المصريين في دولة القانون وقضاء مستقل؟ حملة سرعان ما اتسعت لتضرب أيضا من شاركوا في الانقضاض عليها وإهدار مكتسباتها.

خرجوا للإعلام فسمع

الناس صوتا حبيسا

من راديو لندن، استمعت للمرة الأولى إلى صوت المستشار محمود الخضيري، الفارس في مقدمة كوكبة حركة استقلال القضاء، والذي رحل قبل أيام إلى بارئه.

في عصر هذا اليوم من العام 2006، فاجأتني جرأة عبارات الرجل، وقوة حجته ومنطقه في مواجهة سلطة “مبارك” وتغولها على القضاء، وتزويرها الانتخابات العامة. وهو القاضي الذي كان ما زال على المنصة، مع المحسوبين على الفئة الأكثر محافظة بين الانتلجنسيا المصرية.

وأصبحت مستمعا إلى نبرة الصوت في حيرة من أمري، وأنا اتخيله دون أن أرى صورة له بعد أو ألتقيه، وئيد الكلمات والحركة، وفق ما ترسم في الخيال نبرة الصوت التي حملها أثير موجات الراديو.

بعدها وبحلول مايو/أيار 2006، كنت أمامه في مكتبه بنادي قضاة الإسكندرية الذي يترأسه. فوجدته ضئيل الجسم، ضعيف البصر، شديد التواضع والحنو والاحترام لغيره، حتى للعامل الذي أتانا بالقهوة.

وخرجت من حوار أجريته لصحيفة “الوقت” اليومية البحرينية، وكنت مراسلها بالقاهرة، بانطباع يتحدى الصورة النمطية عند عموم المصريين للقضاة. هؤلاء الذين اخذتهم “الدولة” بعيدا إلى مناصب رفيعة، ومنصات عالية، وخلف أبراج أصحاب الفخامة والعزة والمعالي والامتيازات، وبوصفهم من رجالاتها، وممثلي سلطة ترحم وتبطش، أو تتجاهل وتتعالى، فلا تسمع ولا ترى ولا تتكلم.

من هذا اللحظة، لا تغيب عني كلماته البسيطة في انبساط حقول ريفنا وسماحة أهلها، وبراءة ونقاء المتصوفة لوجه الله لا السلطان. قال: “خرجنا إلى وسائل الإعلام واختلطنا بالناس فسمعوا صوتا كان حبيس الغرف المغلقة”. وكان هذا هو عنوان الحوار المنشور بالجريدة بعدد 31 مايو 2006.

كلمات باقيات تتجدد

عندما أعود لأرشيفي وأقرأ نص الحوار، تستوقفني كلمات تبدو كأنها تتجدد، فتتحدى الزمان، وهي تربط بين استقلال القضاء وكرامة القضاة واعتبارهم عند الناس واحترام إرادة الناخبين ومنع تزوير الانتخابات العامة.

قال: “في أواخر الستينيات كنت وكيل نيابة أعاون أحد القضاة في الإشراف على الانتخابات بمحافظة الدقهلية. وكان هذا القاضي معروفا بشخصيته القوية المهيبة في المحاكم. وأبلغنا مأمور الشرطة بأن الانتخابات مزورة لحساب أشخاص مشهورين بالفساد. ولن أنسي حتى الآن هذا القاضي الجليل وقد وجد نفسه عاجزا عن منع التزوير، فأصيب بحالة مرضية وأخذ يتقيأ، وهو في طريقة إلى الفرز، ونظر إلىّ باكيا، وقال: بالطبع ستحتقرني؟ هذا المشهد لا ينمحي من الذاكرة، وكأنني أراه أمامي حتى هذه اللحظة ممزوجا بالإحساس بالقهر”.

وقال عن تشهير مبكر استهدفه وحركة استقلال القضاء محمولا على التخويف من جماعة الإخوان والتورط في علاقة بها: ” أتحدى من يشير إلى حكم قضائي واحد أصدرته يشتم منه انحيازا للإسلاميين وللإخوان”. وأضاف: “نحن مع انتخابات نزيهة أيا من سيستفيد من هذه النزاهة”.

ويلفت نظري اليوم في كلماته أهمية ومركزية مطلب “دولة القانون”، والدفاع عن مكانة القاضي عند المجتمع. ويدهشني كذلك سعيه للجمع بين “دولة مأمولة” وبين مصالح الناس، والإصلاح والثورة معا. قال:” أخشى على مصر من الفوضى، وأتمنى ألا تصل الأمور إلى حد دفع الشعب للخروج عن طيبته وسلميته تحت وطأة الإحساس الشديد بالظلم. هذا الإحساس يتنامى ويولد الثورات”.

من نادي قضاة القاهرة

إلى ميدان التحرير

تعددت اللقاءات بعدها في القاهرة، حيث كان يستقل القطار في اليوم ذاته مرتين غاديا إلى وعائدا من مركز “هيئة أركان” حركة استقلال القضاء، نادي قضاة مصر بقيادة المستشار زكريا عبد العزيز، أطال الله عمره ومتعه بالصحة.

وفي البال موجات مد سابقة لقضاة العدالة والاستقلال تحطمت على صخرة عناد وقمع سلطة ما بعد 1954، ولمعت خلالها اسماء بحروف من نور، بينها المستشاران: ممتاز نصار ويحيى الرفاعي في عقدي الستينيات والثمانينيات.

بعد بداية الألفية الجديدة، كان القضاة المستقلون يحسمون انتخابات نواديهم، وبخاصة في القاهرة والإسكندرية، وقادتها منهم تملأهم الثقة. يتقدمون بجرأة في مواجهة السلطة التنفيذية السياسية من أجل استقلال القضاء وحريات وحقوق المصريين.  لكن لن أنسى تلك الليلة، حين جاء لنادي القاهرة كي يقود اعتصاما مع تصاعد توتر علاقة النادي بسلطة عهد مبارك.

كانت حديقة النادي قد خلت مع تجاوز الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، فأسر لي بألا انخدع بحال أغلبية القضاة، وأسف لأن أهل الاستقلال مازالوا قلة بينهم، لكن أصبحت عالية الصوت نشطة مدعومة بأشواق الشعب، ونخب تتوق للمستقبل. إلا أنني عندما عدت في اليوم التالي، وجدته على صلابته يقود الاعتصام الذي دام لشهر كامل.

وكيف أنسى أيضا عندما جاء إلى نقابة الصحفيين، وهو ما زال في سلك القضاء نائبا لمحكمة النقض ليطالب علنا، في ندوة تحدث أمامها، بمحاكمة شعبية للرئيس مبارك. وفي هذا جرأة ما بعدها جرأة، وأخاله محقا عندما تمسك بهكذا محاكمة بعد تنحي الطاغية.

والجوهري هنا أن يختار القاضي الانحياز إلى الشعب لا السلطة ورغباتها وأهوائها، التزاما واحتراما للعبارة الاستهلالية التي تتصدر كل أحكام المحاكم “باسم الشعب”، ووفاء بها. وكي لا تصبح كالكثير من أمور حياتنا وممارسات سلوكنا، حبرا على ورق، و”برو عتب”. وهكذا كأننا أمة أفعال لا تطابق الأقوال.

ذكريات لقاء أخير

عندما عدت قبل سنوات لأكتب عن حركة استقلال القضاء التي كانت، وصفته بأنه “زعيم الصقور”. وفي زيارتي له، ولم أكن أعرف أنه اللقاء الوداع والأخير، غلب الصمت، تطرق فجأة للإخوان بعد يناير 2011، وتذكر رفضه عرض حزب الجماعة النزول على قائمته لانتخابات نواب البرلمان بالإسكندرية.

ألمح في ترفع إلى تضييق وتجاوزات وتعنت يضر بحقوقه في المعاش والعلاج والدواء، وحتى من نادي القضاة، وحيث الزملاء الذين منحهم من عمره وطاقته ليخدمهم، ويرتفع بشأنهم، ويزود عن كرامتهم وسمعتهم، وبين مواطنيهم.

عند العودة إلى القاهرة، فكرت في الكتابة عن هذه الزيارة كاشفا عن معاناة ما كان لها أن تمس بهؤلاء القضاة الشيوخ الأجلاء. فكرت في النشر داخل مصر، وتراجعت عندما توقعت الحرج والرفض إذا اتصلت مستأذنا مراعاة لأمانة مجالس خاصة.

*

ما يلح اليوم على الخاطر هو إنني نظرت مودعا إلى وجهه، فاسترجعت نظرة “أحمد عرابي” قائد الثورة العرابية في صور فوتوغرافية عتيقة بالأبيض والأسود، بعد عودته من المنفى، وقد دانت البلاد للاحتلال وأعوانه، أو هكذا هُيئ لي.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان