نتنياهو.. كما قال أنيس منصور!

الرئيس السادات (يسار) والكاتب أنيس منصور (منصات التواصل) وتم تحسين جودة الصورة بوساطة (الذكاء الاصطناعي)

من بين تعريفات كثيرة للسياسة يحتفظ التراث الشعبي العربي بتعبيرات فكاهية باللهجات العامية بعضها سيار كمثال للتندر والسخرية سواء اشتهر في جملة لاذعة على لسان فنان كوميدي، أو في استعراض عابر لكاتب مرموق أو في مرور متعجل لسياسي مفكر، لكنني دومًا أتذكر تعريفًا تكرر في مقالات الكاتب المصري أنيس منصور (1924-2011)، وهو أن السياسة هي فن “السفالة الأنيقة”.

كان أنيس منصور أحد الأصدقاء المقربين من الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذي عاش بين عامي (1918-1981) وحكم منذ 1970 وحتى وفاته، وربما هو أحد أكثر الرؤساء العرب الذين ينطبق عليهم وصف “السياسي البراجماتي”، حيث كان يتبع أسلوب “دبلوماسية الصدمات” الذي يحتمل تحولات درامية في مسارات ظلت تقليدية لسنوات، لكنه كان بارعًا في اصطناع المنحنيات واللجوء لطرق بديلة وغير مألوفة، وكان يمضي في طريقه مهما أثار من زوابع وأهاج من عواصف غير مبالٍ بما كسر من قواعد وما أزال من حواجز.

الثقافة مع الخبرة

كان أنور السادات محنكًا عركته الحياة وهو شاب حيث تم فصله من الجيش، فاضطر للعمل في مهن متواضعة أكسبته خبرة لم يكن ليتلمسها لو ظل في ثكنات الجيش المصري لا يعرف غير لغة الأوامر والرسميات، كما أن سنوات سجنه على خلفية قضية اغتيال وزير اتهم بموالاة الاحتلال البريطاني لمصر في أربعينيات القرن الماضي أتاحت له فرصة لتعلم اللغة الألمانية، ولمطالعة كتب أكسبته ثقافة فوق ما صقلته أزماته المتكررة، فكان له نتاج مكتوب كشف عن قلم كان يمكن أن يكون ذا شأن لو تفرغ للكتابة.

كان السادات حكاء ذا أسلوب مسرحي يُظهر قدرات لفظية وتمثيلية بارعة، وإذا ألقى خطابًا فإنه قد ينتقل بسهولة من الجد المرصع بزخرف الكلمات إلى المزاح الساخر خفيف الظل ثم يعود أدراجه.

الثعلب الأنيق

كان السادات مهتمًا بأناقته الشخصية وكان نجمًا لأغلفة مجلات الأزياء العالمية، أما بالنسبة للإسرائيليين فإنهم يعتبرونه نموذجًا للثعلب السياسي والعدو الداهية، فقد فاجأهم بالذهاب إلى القدس المحتلة التي اتخذوها عاصمة لكيانهم الصهيوني الغاصب ليطلب إليهم في خطاب شهير بمقر الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) عام 1977 أن يكفوا عن أوهام السيطرة وابتلاع الأرض العربية في فلسطين ودول الجوار العربي، كما دعاهم لأن تكون حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي فاجأهم بها آخر الحروب.

لا تشارك مستويات دولية عديدة تلك الصورة التي تكونها الدولة العبرية عن السادات، الذي ينظر إليه دوليًا باعتباره رجل سلام دفع حياته ثمنًا لتوقيعه اتفاقًا مع إسرائيل أنهى به حالة الحرب بين كبرى الدول العربية وإسرائيل، وحصل بسبب ذلك على جائزة نوبل للسلام.

سراب التطبيع

لم تحصل إسرائيل على شيء ذي قيمة من السادات مقابل الانسحاب من أراضي شبه جزيرة سيناء المصرية التي احتلت عام 1967، وما أغراها به من تطبيع العلاقات وحميميتها أصبح سرابًا من فوقه سراب لم تجده إسرائيل شيئًا، فبعد خمسة وأربعين عامًا من توقيع اتفاق السلام بين مصر ودولة الاحتلال الصهيوني ما زال السفير الإسرائيلي يعاني عزلة سياسية في العاصمة المصرية، وما زالت القاهرة عصية على أنشطة تطبيع العلاقات، وتجاوز ميراث الاحتلال وإفراطه في انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، واستمرار احتلاله لأراض عربية في لبنان وسوريا.

 الصهيوني النموذج

يستحق بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال الصهيوني أن يكون حالة تُدرس في كيفية البقاء على قيد الحياة السياسية وسط أمواج متلاطمة وأعاصير مدمرة واستهداف من كل ناحية، وفي كيفية المرور بين الحواجز والقفز فوق السدود والاستمرار في الطفو رغم ثقب السفينة.

يتميز السياسي اليهودي المتشدد بتمكنه من أدواته الخطابية، التي تدفعه لأن يكون شخصية مؤثرة أمام الإعلام المحلي والدولي رغم اتهامه بارتكاب عشرات المذابح وجرائم الحرب ضد المدنيين العزل، ومعظمهم من النساء والأطفال.

إجادة “نتنياهو” للغة الإنجليزية مكنته من النفاذ بسهولة إلى مراكز صنع القرار مباشرة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بريطانيا، وهما الدولتان اللتان تكفلت إحداهما بوجود إسرائيل، والأخرى ببقائها، كما جعلته متحدثًا بارعًا أمام وسائل الإعلام، وقد منحته لباقته فرصة دائمة لقلب الحقائق والمراوغة ببراعة أمام أمهر المحاورين.

يهتم أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني يُولد في أراضي فلسطين التاريخية بالإعلام الأمريكي، والعالمي الناطق بالإنجليزية أكثر من اهتمامه بالإعلام المحلي الناطق بالعبرية، ومنذ بدء العدوان الفاجر على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لم يتحاور “نتنياهو” سوى مع قناة عبرية واحدة، بينما يفضل استخدام آلية التصريحات الصحفية، لتوصيل رسائله داخليًا دون مقاطعة أو تشويش.

السرديات الجاهزة

إذا سئل “نتنياهو” عن ازدياد أعداد المدنيين الفلسطينيين من ضحايا جرائم حرب جيش الدفاع الإسرائيلي، فإنه جاهز بسردية “حماس” المجرمة التي تتخذ من المدنيين دروعًا بشرية، وإذا سئل عن مهاجمة قوات الاحتلال الإسرائيلي للمستشفيات فإنه يرد فورًا برواية مكررة عن استخدام قادة “حماس” للمستشفيات لإدارة عملياتهم ضد جنوده وعن اختبائهم في أنفاق تحتها.

أما إذا سئل رئيس وزراء دولة الاحتلال عن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في غزة فإنه يطلق كلماته العاطفية، ليقنع محدثه أنه أحرص الناس على حياتهم، لكن الضغط العسكري الذي يمارسه على “حماس” هدفه أن ترضخ وتفرج عنهم، أما إذا سألته عن المفاوضات فإنه يرد بجدية عن عدم رغبة “حماس” في وقف الحرب وكيف أنها ترفض مقترحات الوسطاء، وإذا حاولت محاصرته بأن الوسطاء هم الذين اشتكوا من تغيير “نتنياهو” نفسه لشروط التفاوض، كما اشتكى أعضاء فريق الوفد الإسرائيلي من عدم وجود صلاحيات تمكنهم من التقدم في المفاوضات وإنجاز صفقة تبادل الأسرى، فإنه يتوه بك بعيدًا حول ضرورات الأمن القومي الإسرائيلي.

السفالة النموذجية

ليس سهلًا أن تتلطخ يدك بدماء عشرات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء، وأن تفسح لك وسائل الإعلام الدولي رغم هذا مساحات لا تتاح لغيرك، وليس سهلًا أن تجد عشرات يقاطعون خطابك أمام “الكونغرس” الأمريكي بالتصفيق الحار، ويتلمسون لك الأعذار، ويحشدون لتبريراتك الواهية، والمتكررة أكثر من مرة، وليس سهلًا أن تكون فوق القانون الدولي وأن لا تطالك يد العدالة حتى الآن لتحاسبك على جرائمك.

ليس سهلًا أن تنجح في البقاء على رأس السلطة، لكن المؤكد أن وصف “السفالة الأنيقة” الذي ابتدعه “أنيس منصور” ينطبق أكثر ما يكون على “بنيامين نتنياهو” المجرم الطليق الذي يصدقه العالم.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان