دماء الفلسطينيين بين عواجيز كوبنهاجن وأيتام أوسلو

صورة إرشيفية للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مكتبه برام الله (غيتي)

بعد رحيل مجموعة الماركسيين المصريين التاريخيين عن الحياة الدنيا، تخيلت أن ما يعرف بمجموعة “كوبنهاجن” -سيئة السمعة شعبيا على مستوى الشارع العربي- قد أصبحت من الماضي، إلى أن ذكرني آخرهم (ع. س) الذي يعاند الرحيل، من خلال ظهور تليفزيوني قبل أيام عدّة، بظاهرة “البُرص” الذي يموت، مخلّفًا ذيلًا يظل حيًّا لبعض الوقت، يتلوى ويتخبط، على الرغم من أنه في عداد الموتى من حيث الأمر الواقع، إلا أنه يأبى، وربما لا يستطيع أن يظل كامنًا، لأسباب تتعلق بطبيعة هذا النوع من الزواحف.

مجموعة كوبنهاجن لمن لا يتذكر، هم نفر من الذين يطلقون على أنفسهم مثقفون، من كل من مصر والأردن وفلسطين والكيان الصهيوني، التقوا -من خلال مخطط للمخابرات الأمريكية- بالعاصمة الدنماركية في يناير/كانون الثّاني 1997، وأصدروا وثيقة أو بيانا جاء فيه (اجتمعنا لكي نسهم في حل دائم وشامل للصراع العربي-الإسرائيلي قبل نهاية هذا القرن، ولكي نبدأ عصرا للسلام العادل والشامل والدائم الذي يتمتع فيه الشرق الأوسط بالاستقرار والأمن والرخاء… إلى آخره)، وفي نهاية البيان قالوا (إننا مقتنعون بأننا نعكس إرادة أغلب شعوب المنطقة!).

بالمناسبة، فهذه المجموعة الكوبنهاجية جميعهم كانوا من مريدي ومرتادي الكرملين الأحمر السوفيتي، في زمن الحرب الباردة، وهو ما يعني أنهم كانوا على النقيض مع البيت الأبيض الأمريكي في تلك المرحلة، إلا أنهم أبوا أن يصبحوا بلا عمل، مع تفكك وسقوط الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، فقرروا الاتجاه غربا، حيث القبلة المضمونة، دولاريًا وإعلاميًا، ولتذهب المبادئ السابقة للجحيم، ما دامت كانت تهدف إلى الارتزاق أولا وأخيرا، فمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لن يؤمن بالأوطان ولا حتى بالقبائل والأسر والعائلات.

أذكر ما قاله الراحل المحترم صلاح الدين حافظ، في ذلك الوقت في معرض تعقيبه على ما يجري “إن هذه الوثيقة تخرق جدار التطبيع، وتؤدي حتما إلى إضعاف المفاوض العربي، كما أن موقعيها ليس لهم صفة تمثيلية وإن أعطوا لأنفسهم حق تمثيل أغلب شعوب المنطقة، وفي هذا تجنٍّ على الشعوب العربية، هذا فضلا عن سرية الإعداد للإعلان وكتمان جريانه، وخلسة عقده وإشهاره”، موضحا أن أغلب مواده غامضة وملتبسة، وأنه جاء بمنزلة بالون اختبار يهدف إلى اختراق جدار المقاطعة الشعبية العربية الرافضة لأي تطبيع مع إسرائيل.

 المرتزِقة تقلدوا المناصب

 

ما قاله الراحل صلاح الدين حافظ في حينه، كان معبرا بصدق عن الشارع العربي، الذي كان وما زال ينظر إلى تلك المجموعة على أنهم ثلة مرتزِقة، تقلدوا فيما بعد مواقع أمريكية، وأخرى في أوطانهم في إطار إرضاء واشنطن أيضا، حتى إن آخرهم المشار إليه تليفزيونيا، ممن ما زالوا على قيد الحياة، أصبح فيما بعد عضوا ومحاضرا بارزا في معهد “كارنيجي” التابع للمخابرات الأمريكية، قبل أن يتقلد مواقع مرموقة في وطنه، كان آخرها عضوا نيابيا، للاحتماء بالحصانة البرلمانية من محاكمات تتعلق بالفساد وإهدار المال العام، وهو ما يشير إلى أن الفساد الأخلاقي أحد مكونات هذه المجموعة أيضا.

إعلان أو وثيقة كوبنهاجن 1997، كانت اعترافا غير مباشر بسقوط اتفاقية أوسلو في 1993، التي وقعها أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، ياسر عرفات، في واشنطن مع وزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز، بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وهي الاتفاقية التي نصّت على إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطيني لفترة لا تتجاوز خمس سنوات، للوصول إلى تسوية دائمة، بناء على قراري الأمم المتحدة رقمي 242 و338 بما لا يتعدى السنة الثالثة من الفترة الانتقالية، وتغطية جميع القضايا المتبقية بما فيها القدس واللاجئين والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود.

وقد مضت السنوات الثلاث، دون جديد، كما مضت السنوات الخمس، دون أي تقدم على أرض الواقع، ذلك أن سلطة الاحتلال قد استفادت من وجود السلطة الفلسطينية أيما استفادة، وذلك بتشكيل قوى أمنية ومخابراتية مسلحة من داخلها، دأبت على وأد المقاومة المسلحة للاحتلال منذ اللحظة الأولى، والتعاون الأمني مع الكيان الصهيوني، بالإبلاغ عن خلايا المقاومة، وهو ما كان ينشده الكيان من هذا الاتفاق المريب، الذي أسفر في نهاية الأمر عن الخلاص من رئيس السلطة الراحل ياسر عرفات -بمساعدة داخلية- بمجرد أن بدأ في التمرد على هذا الوضع.

مخططات استهلاك الوقت

المراقب لما جرى في كل من وثيقة كوبنهاجن واتفاقية أوسلو، ثم المراوغات الإسرائيلية على مدى 30 عاما مضت، وكان آخرها ما صدر عن الكنيسيت الإسرائيلي بالإجماع في يوليو/تموز الماضي، برفض إقامة دولة فلسطينية على أي مساحة من أرض فلسطين التاريخية، يدرك تماما أن كل ذلك كان في إطار استهلاك الوقت، حتى تتمكن سلطات الاحتلال من ضم مزيد من الأراضي من جهة، ومن جهة أخرى تنفيذ مخطط التطبيع مع أكبر عدد من العواصم العربية، إلى جانب القضاء على المقاومة ككل، مع ظهور أجيال جديدة خاضعة، لم تشهد الأزمة منذ بداياتها.

الغريب أنه رغم الكشف عن المخططات الإسرائيلية، من خلال الإسرائيليين أنفسهم، الذين أصبحوا يجاهرون برفض إقامة الدولة الفلسطينية، بل الأكثر من ذلك طرد الفلسطينيين إلى الدول المجاورة، ومع حرب الإبادة المستمرة طوال الوقت، لا يزال بيننا في العالم العربي من عواجيز كوبنهاجن وأيتام أوسلو، من ينتقد المقاومة الفلسطينية، ويحملها مسؤولية تردي الأوضاع إلى هذا الحد، ومسؤولية الدماء التي تسيل على مدار الساعة، في الوقت الذي تنتفض فيه شعوب الغرب، والمنظمات والمحاكم الدولية لصالح الشعب الفلسطيني، اعترافا بعدالة القضية، وأحقية المقاومة بالدرجة الأولى.

هذه المواقف المخزية والذرائع المخجلة التي يروج لها عملاء الصهيونية العرب تحديدا، كان يجب أن تتوارى على الأقل مع هذه الظروف العصيبة التي يمر بها الأشقاء في فلسطين المحتلة، إلا إنه بدا واضحا مصداقية المقولة المأثورة “إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت”، ناهيك بأن التكليفات للعملاء دائما وأبدا واجبة التنفيذ، لا يستطيعون التراجع أو حتى المراوغة، حتى لو اصطدموا بالرأي العام، الذي يدّعون تمثيله وهو منهم براء، بدليل أن من غادروا الحياة الدنيا، أصبحوا في مزبلة التاريخ من أوسع الأبواب.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان