قراءة في فتاوى الطيب قبل توليه الإفتاء
كتبنا في مقال سابق عن كتاب: (من دفاتري القديمة) لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وقد كان الكتاب تجميعا لمقالات قديمة للشيخ، وجله فتاوى، قد مارس فيها الإفتاء قبل توليه منصب المفتي رسميا، وتعود أهمية الكتاب للنظر في صلة وعلاقة الطيب بالفتوى، كما أنه عرفنا على بعض تفاصيل عن تكوينه العلمي، ومراحل الطلب في الصغر حتى نيل الدكتوراه، وإن كانت مرورا سريعا يحتاج لتفصيل مستقل في مذكرات يكتبها، وليته يفعل، حيث إن هناك مراحل مهمة مر بها، تتعلق بأحداث تاريخية متعلقة بمصر والعالم العربي والإسلامي، وبخاصة بعد توليه مشيخة الأزهر.
ورغم أن تخصص الطيب الدقيق: العقيدة الإسلامية، فربما ظن بعضهم أن جل هذه الفتاوى ستكون في الجانب العقدي، وهو ما لم يكن، فقد جاءت فتاوى العقيدة في صفحات معدودة، ولعل من أبرز الأخطاء التي تشاع عن الفتاوى أنها فتاوى فقهية فقط، وهو كلام عار من الصحة، فإن كتب الفتاوى القديمة والحديثة، اشتملت على فتاوى فقهية وغير فقهية، فالفتوى سؤال في الدين، سواء يتعلق بالعقيدة أم بمجالات أخرى في التشريع الإسلامي.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالدولة العميقة بين حضارتين
لا عزاء للدم الفلسطيني في المناظرة الرئاسية الأمريكية ولكن…
غموض التجارة الأردنية الإسرائيلية
فمن يقرأ جل كتب الفتاوى، سيجد ذلك واضحا بينا في معظمها، فمن قرأ فتاوى ابن تيمية سيجد أقساما للعقيدة، وأخرى للفقه بفصوله المتعددة، وكذلك فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا، وفتاوى الشيخ محمود شلتوت، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ يوسف القرضاوي، وغيرهم.
طهارة الكولونيا والبعد المقاصدي عند الطيب
مما يلحظه قارئ فتاوى الطيب أنه في كثير منها يراعي مقاصد الشريعة، رغم وجازة الإجابة لكن المتفحص لها سيلتقط هذا الخيط المهم، فمثلا فتواه عن الكولونيا وهل هي نجسة، وكذلك بقية العطور المشتملة على الكحول، فكانت إجابته بطهارة ذلك كله، مستدلا على ما ذهب إليه بالقواعد الفقهية، وبخاصة قاعدة: الأصل في الأشياء الطهارة، وليس شرطا أن يكون كل مسكر نجس، بل العكس هو الصحيح، كل نجس محرم، ثم ذهب للاستدلال بالمعقول، فضرب مثلا بالذهب والحرير وهما محرمان على الرجال، وليسا نجسين.
ثم كانت الخلاصة المهمة في فتواه قوله (واشتمال بعض السوائل على نسبة من الكحول لا يغير حقيقتها، ولا يصنفها في قائمة الخمور. ومن المعلوم للعقلاء جميعا أن زجاجة الخمر لها حقيقة، ولها اسم، ولها تركيب كيميائي، بل لها بواعث وغايات في تسويقها، تختلف جذريا وتجاريا وأخلاقيا عن زجاجة الكولونيا، وحقيقتها، والغاية من تصنيعها وتسويقها، فالخمر خمر، والعطر عطر، ولا اشتراك بين هاتين الحقيقتين المتمايزتين شكلا وموضوعا وحكما).
وضع المساحيق
فمن فتاوى الطيب التي تجمع بين جرأة الطرح والالتزام الفقهي وعدم التضييق، لكن في حدود الشرع، وجمعت بين الرأي الفقهي والجانب التزكوي، قضية وضع المرأة للمساحيق على الوجه عند الخروج من المنزل، فقال (أما وضع المساحيق الخفيفة التي تحسن من صورة الوجه، أو تداري فيه شيئا لا يراد ظهوره، فلا بأس به إذا لم يلفت النظر، ولعله يكون من الزينة الظاهرة المباحة للنساء، مثل: كحل العيون، وخضاب الأيدي والأقدام، وما شاكلهما. والمرأة المتمسكة بدينها هي التي تقتصر على هذا القدر من الزينة الخفيفة التي تضفي عليها الوقار والجدية، وتفرض احترامها على كل من يراها).
زيارة الأب بغير رضا الزوج
ومن الفتاوى التي بدا فيها مزج الطيب بين الفتوى وروح التشريع والجانب الصوفي، فتواه عن زيارة المرأة لأبيها رغم رفض الزوج ومنعها، بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، خاصة لو كانت الزيارة لا تتعارض مع أداء الواجبات الزوجية، وقد كان بعض الشيوخ يفتي الزوجات بأن تطيع الزوج ولها الأجر، ولا تذهب لزيارة الأب، مغفلين ما للأب من حق، وأن البر هنا مقدم خاصة أنه في معروف، وأن أمر الزوج في محرم، وهو قطيعة رحم وعقوق.
الطيب ومسلسل عائلة الحاج متولي
من الفتاوى التي وردت للطيب، أسئلة كثيرة عن تعدد الزوجات، وقد جاءت في سياق بث القنوات الفضائية المصرية وغيرها مسلسلا بعنوان (عائلة الحاج متولي)، وقد كان للمسلسل ضجة إعلامية وفنية كبرى وقت بثه، فقد هاجم الطيب هذا العمل الفني ومثيله، بأنه خلط للأوراق حول واحدة من أهم وأخطر مؤسسات المجتمع وهي الأسرة، وأن عرض الموضوع في سياق هازل وساخر، لشخص يتنقل بين زوجات أربع بشكل لا يعبر عن المجتمع، بل يعرض سلبية من سلبياته، مضر بالقضية والأسرة.
ثم تناول الرد على من يرفعون لافتة: تعدد الزوجات سنة، بأن هذا الكلام لا يتوافق مع مقاصد الشريعة ونصوصها، وأنه (من الخير لهؤلاء المتمسحين بالسنة في موضوع تعدد الزوجات، أن يعينوا ثلاثة أشخاص على الزواج، بدلا من أن يتزوج الواحد منهم أربعا تحت لافتة السنة، والسنة منه براء)، فهو هنا يعلق على ظاهرة، يريد بعضهم تبريرا لهواه الشخصي بإلصاقها بالسنة، وليس نفيا منه لرأي الشرع، الذي ناقشه في سياقات أخرى في كتابه.
البعد عن الشذوذ الفقهي والإثارة
ما لاحظته في فتاوى الطيب، رغم وجود أسئلة مهمة، ويمكن أن تحمل عناوين إعلامية براقة، لكنه ابتعد عن ذلك، فكما ابتعد عن الشذوذ في الفتوى، وهو ما يأخذه على بعض المشايخ الأزهريين وغيرهم في ظهورهم الإعلامي، والجري وراء كل جاذب للجمهور، رأينا فتوى للطيب، عن توبة سائلة أذنبت، فنشر الإجابة دون السؤال، مشيرا إلى صاحبة السؤال بهذه الحروف: ن.م.س، وكتب في هامش الفتوى (جاء الجواب عليه مباشرة من سائلة تسأل عن أمر خاص فعلته، فنشرت الصحيفة وقتها الجواب مباشرة دون إيراد السؤال، مراعاة للسائلة)، فهنا حصرت الجريدة على ذلك، وهو أمر مشكور لها، وأصبح اليوم في عالم الصحافة أمرا نادرا، ولأنه توجيه من الطيب أيضا.
هذه لمحات سريعة من فتاوى الطيب قبل توليه الإفتاء، من كتابه (من دفاتري القديمة)، وهي لا تغني عن التفصيل في سياق آخر، لكننا أردنا ضرب نماذج على مرحلة مهمة من حياة الشيخ العلمية.