محن في طياتها منح.. وقفة تأمل مع غزة
المحن كاشفات، وتحمل في طياتها منحًا لا يدركها إلا أولو الألباب، فمن رحم المحن تولد المنح، وكم من منح خفية تجلت من بين ركام محن عاصفة وشدائد مهولة ومصائب عظيمة.
المحن والابتلاءات كما تصيب الفرد تصيب الشعوب والأمم، وكلٌ يُمتحن على قدر دينه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وعلى قدر منزلة العباد عند ربهم تكون المحن والابتلاءات والمنح والعطاءات، وكل ابتلاء يقود إلى ارتقاء، يقول الله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsسقوط “زعيم الشبيحة”.. هل من متعظ؟
ثورة سوريا… بين هروب الأسد وظهور الضباع
الثورة السورية من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
يتمايز البشر في المحن والشدائد، وتنكشف معادن الرجال، ويتجلى أصل الناس وحقيقتهم، فيُعرف الأصل الطيب من الخبيث.
وتتجلى في المحن والشدائد قيم الأمم وأخلاقها، ويظهر العدو من الصديق، وينكشف مرضى القلوب والمنافقون، ولا يتوارى المرجفون.
يقول الله تعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب}.
غزة بين الأفعال والأقوال
ما أكثر الأقوال وأندر الأفعال، إذ في المحن والشدائد يتمايز القائلون عن الفاعلين، وأصحاب الجعجعة عن أصحاب الشجاعة والفداء والتضحية.
ففي الوقت الذي تستمر محنة الإبادة بحق الفلسطينيين في غزة، ويوسّع الاحتلال الإسرائيلي عدوانه ليمتد إلى الضفة، ويمارس جنونه في المنطقة، تتعالى كلمات الشجب والتنديد للتهرب عن عمد من اتخاذ أية إجراءات عملية.
وإزاء ما يحدث في غزة، نحن أمام عالم يرتدي أقنعة، ويمارس الصراخ والاستعراض السياسي والدبلوماسي والقضائي، ولا يخطو خطوة لاستخدام أدواته المادية المختلفة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، مكتفيًا بتلك الخطوات الرمزية، التي تعطي المحتل الإسرائيلي مزيدًا من الوقت، ليواصل الإبادة كيفما شاء، ولولا صروف الدهر لما سقطت الأقنعة!
لقد كشفت محنة غزة أن من يدعون دعم فلسطين حدودهم لا تتجاوز خطوات رمزية وكلمات قوية، وكل ذلك يذهب أدراج الرياح ما لم تصحبه أفعال مادية على أرض الواقع.
غزة محنة الأمة والإنسانية
محنة غزة المستمرة كم كشفت ولا تزال، وما كانت الأمة لتتجلي أمامها صورة العالم على حقيقته لولا تلك المحنة.
فلولا محنة غزة ما كانت الأمة لتتعرف على واقعها وتقف على حقيقة حالها، وما كان العالم ليطلع على ما آل إليه حال النظام الدولي القائم.
فما يحدث اليوم في غزة والضفة وسائر فلسطين ليس محنة أهل فلسطين وحدهم، بل محنة الأمة جميعها، ومحنة الإنسانية كلها.
لقد جعلت محنة غزة العرب والمسلمين والعالم أجمع أمام اختبار أخلاقي، وأوقفت الجميع أمام محكمة الضمير والإنسانية!
لقد كشفت محنة غزة مكر القانون الدولي والهيئات والمنظمات والمحاكم الدولية؛ إذ لا يعدو ما يصدر عنها سوى أن يكون إيهامًا بفعل شيء، دون اقتراب من اتخاذ إجراءات مادية.
منح في قلب المحنة
أهدت محنة غزة للأمة والعالم منحًا دفع ثمنها غاليًا أهل فلسطين، لتنهض الأمة من سباتها وغفلتها، وليستفيق العالم من سكرته.
في محنة غزة كم من حكم ربانية عظيمة وألطاف إلهية جليلة، وصدق الله إذ يقول: {عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
لقد أحيت محنة غزة شعور الأمة الواحدة لدى المسلمين، وأيقظت الوعي الذي أُريد تغييبه، وبعثت عقيدة المسلمين من مرقدها، وخلقت إيجابية وفاعلية بين قطاعات عريضة في الأمة.
وكان من عظيم المنح الربانية في محنة غزة، تلك الغربلة للصفوف؛ فظهر المنافقون والمندسون في الصفوف، وتجلت رحمة من رحمات الله، وانكشف أهل النفاق والخيانة، وافتضح أمرهم ليحذرهم المسلمون. وكم من أبي رغال ما كان أحد أن يعلمهم لولا محنة غزة، التي كشفت أن لأبي رغال أحفاد يواصلون مسيرة خيانته وعمالته.
ومن المنح الربانية في محنة غزة، كشف الأولياء المناصرين من الأعداء المخذّلين، سواء على مستوى الأفراد أو الهيئات والجماعات أو الدول والحكومات.
لقد منحتنا محنة غزة فرصة لنقف وقفة تدبر وتأمل مع كتاب الله عز وجل، لنضع أيدينا على السنن الربانية، لنستضيء بأنوار هدايتها في بحر متلاطم من الأحداث والفتن.
يقول الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ}.
فمن سنة المدافعة إلى سنة الابتلاء، وسنة التغيير، إلى سنة الإملاء والاستدراج للكافرين والمنافقين، هذه السنن تنبهنا إليها محنة غزة.
ختامًا
إن الظلام مهما طال فلا بد أن يبزغ نور الفجر، وتشرق شمس الصباح. إن محنة غزة وفلسطين عمومًا ليست الأولى في تاريخ هذه الأمة، ولن تكون الأخيرة، فعلى مدار تاريخ الأمة الطويل مرت عليها محن وابتلاءات ومنح وعطاءات، ونصر وهزيمة، ولكنها لم تستسلم، وأخذت بالأسباب ما استطاعت فكانت الخاتمة حسن العاقبة والنصر على الأعداء، وهذا وعد الله الذي لا يخلف وعده.
تنبهنا محنة غزة أن مشكلة الأمة هي مشكلة إرادة، وأن أمضى العرب والمسلمين إرادة الآن؛ هم هؤلاء الذين في غزة والضفة وبيت المقدس.
ولئن علا الأعداء في الأرض، وطغى الباطل على الحق، فما ذلك إلا لوقت وحكمة يعلمها الله عز وجل، لكن العاقبة في كل الأحوال للمتقين.
يقول الله تعالي: {وقضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} .
آيات تحتاج إلى وقفة تأمل مع الأحداث في غزة، ففيها دروس تساعد في فهم المحن التي تحمل في طياتها منحًا خفية.