صحفيو مصر يفتحون الملفات المغلقة

بقدر ما عانت الصحافة المصرية من قيود صارمة كبلتها طوال السنوات الثماني الماضية، سيطرت الرغبة في تغيير الواقع الحالي على غالبية الصحفيين المصريين الذين أدركوا أن هذا التغيير بات ملحًّا كما لم يحدث من قبل.
في الاتجاه نحو طريق مختلف لمهنة البحث عن الحقيقة يبدو المشوار طويلًا.
هذه حقيقة مؤكدة!
بعث الصحفيون المصريون في مارس/آذار عام 2023 برسالتهم الأولى إلى السلطة من جانب، وإلى المجتمع من جانب آخر، وصعدوا بخالد البلشي الصحفي اليساري البارز من صفوف الجمعية العمومية إلى مقعد نقيب الصحفيين ليبدأ رحلته في الاشتباك مع واقع صحفي صعب، لا يبدأ بالحصار المفروض على الصحافة وحريتها، وتراجع مستوى معيشة الغالبية العظمى من أعضاء النقابة، ولا ينتهي عند تشريعات بائسة تحتاج إلى تغيير كبير لتواكب التطورات المذهلة في سوق العمل الصحفي.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsليلة القبض على الرئيس!
عن أزمة الدراما وغياب الحرية
الإعلام في رمضان.. تنافس على الصائمين وحرب عليهم؟!
في الاشتباك مع تلك القضايا العاجلة والملحة، يترقب الجميع نتائج معركة البلشي ومجلسه.
وبقدر ما ينجح النقيب في فتح مسارات جديدة للمهنة ستزداد شعبيته وسط مجتمع صحفي راضٍ حتى الآن عما قدّمه البلشي ومجلسه.
بمقدار ما اجتهد النقيب الجديد في فتح الملفات المغلقة تفاعل معه الصحفيون بدرجة كبيرة، وعلقوا الآمال على تغييرات تتجاوز الشكل لتصل إلى جوهر المهنة لتعيدها إلى الدور والتأثير المفقودَين.
ضمن المحاولات التي تعدها النقابة لتفتح بها الملفات المغلقة منذ سنوات، جاءت فكرة “المؤتمر السادس للصحفيين”، لتصبح خطوة مهمة للغاية في رحلة مجلس النقابة الحالي، تعيد المسكوت عنه إلى الواجهة، وتشرك مئات الصحفيين في حوار جاد عن واقعهم المعيشي وقدرتهم على التعبير والنشر بحرية، ثم تبحث في نصوص تشريعية تحتاج إلى تغييرات جذرية في اللحظة نفسها التي تتأمل فيها مستقبل المهنة وسط تطورات كبيرة حدثت للصحافة في كل مكان في العالم.
لجان المؤتمر الثلاث
رئاسة المؤتمر آلت إلى الدكتور وحيد عبد المجيد الخبير البارز والمهم في مركز الدراسات السياسية في الأهرام، ثم بدأت تحركات الصحفيين تفاعلًا مع دعوة النقابة ليكون انعقاد الحدث المهم في شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
اختار مجلس النقابة تقسيم العمل إلى ثلاث لجان رئيسية، تتقاطع مع الهم الصحفي، وتفتح ملفات لم يعد السكوت عنها ممكنًا!
اللجنة الأولى هي “اقتصاديات الصحافة”، يتدارس فيها أعضاؤها كل ما يتعلق بالواقع الاقتصادي للمؤسسات الصحفية، والأزمات المالية التي تتعرض لها، وتجتهد للإجابة عن أسئلة مهمة حول صيغ التمويل الجديدة التي تحتاج إليها المؤسسات للنجاح والتطور، وفي القلب من تلك التفاصيل تضع اللجنة نصب أعينها ما تحتاج إليه تلك الصحافة بتنويعاتها المختلفة بين القومية والخاصة والحزبية، ثم التوسع الذي حدث في دور المواقع الإلكترونية وتأثيرها، وقدرتها على تجاوز الصعوبات المادية الكبيرة التي تحاصرها بشكل حاد في كثير من الأحيان.
من الاقتصاد إلى المستقبل القادم يتحاور أعضاء النقابة في لجنة “مستقبل الصحافة” حول التطورات المذهلة التي دخلت على المهنة في العالم أجمع، والاستخدام الأمثل للصحافة الرقمية، والتأثير الكبير للذكاء الاصطناعي على واقع الصحافة، وكيفية الاستفادة منه في تطوير العمل الصحفي دون الإضرار بدور الصحفي نفسه في العمل والتأثير وسط تلك التقنيات الجديدة، وتجيب اللجنة عن أسئلة حول الصحافة التقليدية التي باتت تتراجع في الدور والتأثير، وما هو مطلوب الآن من تصورات مستقبلية عن المهنة وتطورها وازدهارها.
المؤكد أنه لا يمكن الحديث عن اقتصاديات الصحافة أو مستقبلها بمعزل عن القضية الأهم والملف المغلق منذ سنوات، أي حرية الصحافة والقيود الكبيرة المفروضة على المهنة.
تشتبك اللجنة الثالثة مع “التشريعات والحريات”، في محاولة لإصدار قرارات وتوصيات تحرر الصحافة من قيود كثيرة فُرضت عليها طوال السنوات الفائتة وأضرت بها بشكل مباشر، تفعل اللجنة هذا وهي تشتبك مع البيئة السياسية القائمة من أجل فتح مساحات جديدة للحريات الصحفية، في اللحظة ذاتها التي تشتبك مع البيئة التشريعية التي تحتاج إلى تغييرات كبيرة، تضمن مجالًا أوسع لحرية العمل الصحفي، وتمنح الصحفيين حقهم في الكتابة والنشر والدفاع عن الحقيقة التزامًا بالنصوص الدستورية التي تكفل للصحافة حقها في العمل دون قيود، وفي نشر الحقائق دون عوائق.
عودة إلى الحريات الصحفية
منذ عام 2016، تراجعت حرية الصحافة في مصر إلى مستوى مخيف!
قيود كبيرة فرضتها السلطة على المحتوى الصحفي، فضلًا عن سيطرة تامة على غالبية المؤسسات عبر رقابة غير مسبوقة على المحتوى والمواد المنشورة.
في طريق السيطرة على الصحافة، توسعت السلطة في استخدام سلاح حجب المواقع الإخبارية بشكل كبير، وسط بيئة سياسية تعادي الصحافة بشكل عام، ثم أضيفت قيود أخرى على المهنة بتشريعات قانونية صدرت في عام 2018 أتاحت الحجب وإيقاف الصحف والمواقع بالقانون، ثم تمدد الحصار المفروض في تلك القوانين ليشمل هذا النوع من الاتهامات غير المنضبطة التي ليس لها تعريفات محددة، مثل الكراهية والعنصرية وتهديد الأمن القومي والإباحية ومعاداة الديمقراطية!
في كل تقارير الحريات الصحفية في العالم، تتذيل مصر القائمة ويتم تصنيفها إحدى الدول التي تعاني غياب الحرية.
كل هذه القيود لم تكن فقط تغييبًا لحرية النشر وانتقاصًا من حق المواطنين في المعرفة، بل إن غياب حرية الصحافة ارتبط بشكل مباشر بتراجع حاد في مستوى معيشة غالبية الصحفيين وبتغييب شبه كامل للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
فلا صحافة بلا حرية، هذه حقيقة لا خلاف عليها!
بسبب الحصار الكبير الذي تعرضت له الصحافة، غاب القارئ وراح يبحث عن منصات أخرى تتيح له الاطلاع على المعلومات، ثم ابتعد المعلنون عن صحافة يهجرها جمهورها بشكل كبير، ثم بات التفكير في إنشاء مؤسسات صحفية جديدة أو الاستثمار في الإعلام عبئًا كبيرًا أقرب إلى المخاطرة، تجمعت كل هذه العوامل وتراكمت فتراجع مستوى الدخل المادي للصحفيين بشكل قاس وكما لم يحدث من قبل.
في محاولات الصحفيين المصريين لصناعة تغيير في المشهد الحالي عبر توصيات تصدر عن مؤتمرهم السادس ما يدعو إلى الأمل.
وبكل الحسابات الجادة فإن كل مساحة يمكن أن يفتحها المؤتمر في جدار القيود الحالي هو انتصار مؤكد لمهنة تعاني أوضاعًا صعبة لدرجة لا يمكن أن تحتمل معها المزيد.
وفي المحاولات ذاتها شرف تستحقه الصحافة والنقابة على السواء!
ماذا بعد المؤتمر؟
في انتهاء المؤتمر بما سيصدره من توصيات مهمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضايا المهنة الرئيسية، بداية جديدة يحملها مجلس النقابة على عاتقه.
بتفاوض جاد مع كل المؤسسات المعنية في مصر، يمكن النجاح في تنفيذ عدد من تلك التوصيات التي وضعها أهل المهنة الذين هم أدرى بشعابها!
بالقياس على الفترة الماضية، يمكن التمسك بالأمل حول قدرة النقيب الحالي ومجلسه على تحويل مطالب الجماعة الصحفية إلى واقع جديد، فقد نجح البلشي في إنجاز عدد من المطالب التي يرفعها الصحفيون منذ سنوات، على رأسها حلحلة ملف الصحفيين غير المعينين في الصحف والبدء في تعيينهم على دفعات، ثم إخلاء سبيل عدد من الصحفيين المحبوسين على ذمة قضايا النشر والرأي، وغيرها من نجاحات تحققت.
في إحالة توصيات المؤتمر العام -أو بعضها- إلى واقع ليس نجاحًا مهمًّا لمجلس النقابة الحالي فقط، بل نقلة مهمة لمهنة الصحافة التي حاصرتها الأزمات من كل اتجاه خلال السنوات الماضية حتى أوشكت على الموت.