بايدن في سجن طرة!

الرئيس الأمريكي جو بايدن (رويترز)

يقول كارل ماركس إن «التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفى المرة الثانية كمهزلة»، وهي مقولة أثبتت قدرة دائمة على إثارة الإعجاب والقابلية للإثبات.

ويتذكر كاتب هذه السطور مدى الارتياح والتفاؤل “الساذج”، الذي ساد أرجاء سجن طرة، حيث أمضى هناك حوالي 3 أعوام ونصف العام، بعد الإعلان عن هزيمة اليميني المتعجرف دونالد ترامب عام 2020.

معظم السجناء السياسيين هنّؤوا بعضهم البعض. وسرح بهم الخيال، ليتوقعوا حدوث انفراجه، وتأسيس لدولة فلسطينية، لكن بعد أن جاء بايدن “المخلص”، استمر السجناء في السجون، ولم تتحرر فلسطين.

وفي هذه الأيام، يلاحظ، وإن كانت بدرجة أقل، أن ذات النغمة تتكرر، خاصة بعد أن غمر أنصار كامالا هاريس وسائل التواصل الاجتماعي بالمنشورات، التي تظهرها كامرأة خارقة تدافع عن السود، والنساء، والدستور الأمريكي، وتمثال الحرية.

صحيح أن انتخاب امرأة سوداء رئيسة من شأنه أن يشكل تحولًا كبيرًا في نظرة الناس للولايات المتحدة، وسيكون ذلك بمثابة ضربة، لكل أولئك الذين يريدون إبقاء البيت الأبيض أبيضًا وذكوريًا.

ولكن، كما كتبت الخبيرة الاستراتيجية الأمريكية اليسارية هنية جودت، “لا يسعنا سوى أن نشعر بالانتعاش، باعتبارنا نساء ملونات، باختيار هاريس، ولكننا نعرف كيف يبدو الأمر عندما يتم استخدامنا لالتقاط صور تذكارية متنوعة، فقط عندما يُطلب منا أن نكون هادئين وصابرين في ظل نظام يعطي الأولوية للربح على الناس وينفق المليارات من أموال ضرائبنا على القنابل، بينما يعاني أطفالنا من الجوع”.

وتضيف في مقال حديث لها في مجلة “جاكوبين” اليسارية الأمريكية، “نحن نعلم جيدًا كيف نشعر بخسارة الأبناء والبنات بسبب الجوع ووحشية الشرطة في الداخل، ومشاهدة الأبناء والبنات، الذين يشبهوننا وهم يذبحون تحت المباني المنهارة ويموتون جوعًا في غزة”.

سيرك الديمقراطيين!

وتحاول الآلة الديمقراطية الترويج لكامالا هاريس باعتبارها أكثر “تقدمية” من بايدن، لكن مؤتمر الحزب الديمقراطي، كان كاشفًا، فقد وعدت بدعم الشركات الكبرى، وردّت بـ”لا” على سؤال، عما إذا كانت ستعلق تسليم الأسلحة لإسرائيل في حال فوزها، وبذلت كل ما في وسعها للتأكيد على أن الديمقراطيين هم رهان آمن للطبقة الرأسمالية الحاكمة.

وفي هذا السياق، كشفت صحيفة “فايننشال تايمز” أن أبرز 15 شركة سلاح في العالم، تتوقع أرباحًا، بقيمة 40 مليار جنيه إسترليني في عام 2026.وهذا ضعف ما كانت عليه الارباح في عام 2021، مشيرة إلى أن أكبر خمس شركات مصنعة للأسلحة في الولايات المتحدة، ستجني وحدها نصف هذه الأرباح.

وعلى المستوى المحلي، غيرت كامالا هاريس موقفها بشأن عدة سياسات رئيسية، وتراجعت عن بعض وعودها الأكثر ليبرالية.

على سبيل المثال، تخلت عن تعهداتها بدعم برنامج الرعاية الصحية للجميع. وتدعم الآن مشروع قانون حدودي من الحزبين يتضمن تخصيص مئات الملايين من الدولارات لبناء جدار حدودي، وهو شيء كانت كامالا هاريس قد وصفته سابقًا بأنه “غير أمريكي”.

ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن رجال سود، دعموا بايدن، أنهم محبطون لعدم حدوث تغيير، فيما أوضح عامل، يدعى جيمس أن “الاقتصاد يزداد سوءًا”، مشيرًا إلى أن الأسعار ترتفع، مما يضطره للعمل ساعات أطول، لكي يستطيع الحياة.

فشل الإصلاحية

الوضع السياسي الحالي في الولايات المتحدة يتسم بالاضطراب الاقتصادي الذي يؤدي إلى استياء شديد، وتتجه قطاعات جماهيرية واسعة صوب اليسار أو اليمين المتطرف.

وفي عام 2016، عبر غضب العمال الأمريكيين عن نفسه بشكل رئيسي من خلال مرشحين: الإصلاحي، بيرني ساندرز من جهة، واليميني المتطرف ترامب من جهة أخرى.

وقد فعل الديمقراطيون، كل ما في وسعهم لمنع ساندرز من الحصول على ترشيح الحزب. وآنذاك أتيحت أمامه فرصة لمواجهة الديمقراطيين من خلال الانشقاق عنهم وتشكيل حزب اشتراكي جماهيري. لكنه بدلًا من ذلك قدم الدعم لهيلاري كلينتون.

ومرة أخرى ترشح ساندرز للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي عام 2020، وسرعان ما اجتمعت الطبقة الرأسمالية، حول بايدن، لتمنعه من الترشح مجددًا.

ورغم ذلك، ما زال ساندرز يدعم بايدن-هاريس، كما أيدت عضوة الكونغرس “التقدمية”، ألكسندريا أوكاسيو، بايدن طوال حرب غزة، وصوتت أيضًا معه عندما فرض “الرئيس المؤيد للنقابات”، تسوية على عمال السكك الحديدية وجعل إضرابهم غير قانوني.

الترامبية الشعبوية

وبالمقابل ظهرت الترامبية، لأول مرة عام 2015، ومنذ ذلك الحين انتشرت وسط قطاعات جماهيرية مستفيدة من تذيل اليسار، للحزب الديمقراطي، مما أعطى ترامب احتكارًا شبه كامل للمزاج “المناهض للمؤسسة”.

ولعب ترامب أوراقه الشعبوية، واكتسب آذانًا صاغية بين العديد من الشباب الغاضب، فضلًا عن أعداد كبيرة من العمال السود واللاتينيين، وهو ما انعكس في استعادة الجمهوريين للأغلبية في مجلس النواب عام 2022.

وأكثر من هذا تشير مجلة “جاكوبين” اليسارية، إلى “أن الجمهوريين يتجهون لترسيخ مكانتهم كحزب جديد للطبقة العاملة”.

الحاجة إلى استراتيجية جديدة

لقد شارك الملايين، في السنوات الأخيرة في الحركات الجماهيرية، التي هزت الولايات المتحدة، وأشعلت الإبادة الجماعية في غزة، أوسع حركة من أجل فلسطين في تاريخ أمريكا، كما شهد عام 2023 أكبر عدد من الإضرابات العمالية منذ 23 عامًا.

وكان من الطبيعي، أن يزدهر اليسار في هذه الأجواء، لكن التعثر في بلورة مشروع راديكالي، وتبني إستراتيجية تعتمد على تغيير الحزب الديمقراطي من الداخل، أضاعا الفرصة.

غير أن الحراك لم ينته وأسبابه العميقة متجذرة والأزمة لن تنتهي سواء بصعود هاريس أو العنصري ترامب، ولكن حتى موعد الانتخابات الرئاسية، هناك فرصة أمام الحركات الداعمة لفلسطين، خصوصًا في الجامعات، للضغط على كامالا هاريس، لكي توقف حرب الإبادة.

وقد عبر فاضل النابلسي، وهو محام أمريكي من أصل فلسطيني، عن الشكوك داخل قاعدة الناخبين “غير الملتزمين” قائلًا: “عليكم أن تكونوا على نفس الصفحة معنا جميعًا إذا كنتم ترغبون في الحصول على دعمنا ومساندتنا”.

وفي ذات الوقت، هناك ضرورة لكي تغسل المجموعات اليسارية يدها من يد هاريس الملطخة بالدماء، وأن تتخلى عن التحالف مع ممثلي السياسات النيوليبرالية الوسطية، بزعم مواجهة اليمين المتطرف، وأن تشرع في تأسيس بديل ثالث، منحاز للجماهير والعدالة، ويفض التحالف مع الصهيونية.

وفي هذا السياق يقول “مارك بن”، الرئيس التنفيذي لشركة ستاغويل الإعلامية بشأن أحدث استطلاع شهري لـ”هارفارد هاريس”، إنه يوم تلو الآخر تزداد نسبة المستقلين، مضيفًا أن الناخبين، غير متحمسين بشأن أي من الحزبين، ويبحثون عن التغيير.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان