عندما تصبح الحرب هي الهدف
عندما تتحول الحرب إلى هدف، سيرتدي قادة الحرب سترة البراءة، وستُرتكب المجازر باسم الدفاع عن النفس، سيتفنن الجنود في تعذيب الضعفاء، ويصبح الانتقام حقًّا مشروعًا، والكراهية رد فعل لعطشى لا ترويهم بحور الدماء.
يقول العديد من خبراء السياسة إن معظم الحروب التي خاضتها الدول أسبابها غير منطقية، وهي بالأحرى (غبية)، ومنها الحربان العالميتان الأولى والثانية التي راح ضحيتهما ملايين البشر ودُمر بهما العديد من المدن، ونُشر البؤس والفقر والأمراض، باستثناء حروب التحرير التي خاضتها الشعوب والمقاومة، وفيما عدا ذلك، فإن الحروب كانت تُبنى على عقلية “الحرب هي الهدف” لا أكثر ولا أقل.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsكان ناصرياً في زمن ما..!
في لبنان انقلب السحر على الساحر
ضجيج بالفناء الخلفي للبنان لا ينتظر نهاية الحرب
في هذا السياق، يتلاعب هؤلاء القادة بشعوبهم وجيوشهم، مستغلين العواطف والرهبة لتأجيج مشاعر الكراهية تجاه أعداء وهميين أو تهديدات غير موجودة. يُبنى هذا السرد على أسس زائفة، إذ يتم تصوير الحرب كضرورة حتمية للبقاء أو كوسيلة لحماية الأمة، مما يخلق حالة من القبول المطلق بين الشعب.
استغلال النزاعات كوسيلة لتحقيق أهداف شخصية
وباستثناء حروب التحرير التي تسعى للتخلص من الاحتلال أو الاستبداد، يتم استغلال النزاعات كوسيلة لتحقيق أهداف شخصية. فالقادة، بدلًا من أن ينظروا إلى الحرب كأداة أخيرة لحل المشكلات، يحولونها إلى غاية، مما يجعلهم يتفننون في استخدام الألاعيب والأوهام لتبرير الصراع.
التاريخ يكشف أن العديد من الحروب التي شنتها الدول لم تكن تهدف إلى تحقيق إنجازات حقيقية، بل كانت في جوهرها تدور حول الحرب نفسها. فهؤلاء القادة يسعون إلى تحقيق بطولات وهمية تسطر في تاريخ مزور، ولا شيء يحقق لهم ذلك سوى الحرب.
وضمن هذه المعطيات، يتحول من يعارض الحرب إلى خائن أو عميل، لا يهتم بالمصلحة العليا، مما يجبر الأغلبية على الخضوع، خوفًا من العقوبات القاسية مثل الإقصاء أو الاعتقال أو الإعدام. بذلك، تتحول الحرب إلى لعبة، يديرها لص محترف، يتلاعب بأرواح الجميع ولا يرى ما قدمت يداه، تحت مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”.
سهولة السيطرة على الدولة في حالة الحرب
الكاتب الإسرائيلي ميخائيل بريزون عبَّر عن هذه الفكرة في مقاله بصحيفة “هآرتس” العبرية، إذ رأى أن إسرائيل منذ قيامها وهي تفتعل الحروب، وأن هذه الحروب أصبحت هدفًا تحت مسميات مختلفة غير منطقية، لأن السيطرة على الدولة في حالة الحرب أسهل بكثير من حالة السلم، واصفًا الجنود الذين يذهبون لقتل المدنيين الأبرياء بأنهم هم أنفسهم أغبياء يقتلون لبقاء السلطة وتحت مسمى حرب مقدسة أمرهم بها الرب.
في هذا السياق وكما عبَّر عنه الكاتب اليهودي، فإن الحرب لا تكون حالة طارئة أو مؤقتة وإنما وضع دائم، غايته الخفية تحقيق مكاسب شخصية ضيقة أو اقتصادية أو توسعية على حساب الأبرياء، ما يعني حالة من العبثية في محاولة لترسيخ سلطة القادة.
مناسبة هذه المقدمة هو ما طرحه نتنياهو قبل أيام في مؤتمر صحفي وهو يمسك عصا يشرح بها خريطة غزة وحدودها مع مصر، معلنًا تمسّكه ببقاء جنوده في محور فيلادلفيا، نتنياهو الذي يتقن فن اللعب على الغرب، تحدّث هذه المرة باللغة الإنجليزية في محاولة لإقناع الغرب بسبب تمسّكه بهذا المحور لإبرام هدنة مع حماس، وأهمية هذا المحور في منع تهريب الأسلحة إلى المقاومة.
قبل محور فيلادلفيا، كان نتنياهو قد لوَّح في بداية الحرب بورقة مستشفى الشفاء في غزة وضرورة اقتحامه والسيطرة عليه، بحجة أن أسفل المستشفى نفقًا للمقاومة يُعَد غرفة عمليات مركزية وينبغي تدميره، وبعد اقتحام المستشفى وتهجير مرضاه واعتقال البعض منهم وقتلهم، اكتشف العالم والمجتمع الإسرائيلي فبركة قيادات الجيش التي صورت مواد متفجرة وأسلحة في إحدى غرف المستشفى، فبركة كانت واضحة للعيان، حتى أن نتنياهو ذاته الذي أطلق الكذبة شعر بالخيبة من غباء هذا السيناريو المضحك.
بعد ورقة مستشفى الشفاء، أخرج نتنياهو من جعبته ورقة أخرى خلال المفاوضات، وهي منطقة رفح، معللًا ذلك بأن المقاومة تتركز في هذه المنطقة وأنه يجب دخول رفح والقضاء على المسلحين وتخليص الأسرى الإسرائيليين، وهذه المرة أيضًا لم يحقق شيئًا يُذكر من أهدافه سوى قتل المدنيين ونزوح عدد كبير منهم إلى مناطق أخرى.
محور فيلادلفيا.. الورقة الأخيرة في جعبة نتنياهو
وبما أن نتنياهو يطيل فترة بقائه في السلطة من خلال الحرب، فإن أوراقه التي يلوّح بها كل مرة لا تنتهي، فها هو الآن يلوّح بورقة محور فيلادلفيا، ويتهم مصر بالتقصير في منع تهريب الأسلحة، بالرغم من أن الأخيرة أعلنت مرارًا وتكرارًا أن الانفاق التي كانت موجودة بين غزة ومصر قد أُغرقت بالكامل ولم تعد تُستخدم.
ومنذ 11 شهرا من بداية هذه الحرب، ومع سيطرة جيش الاحتلال على محور فيلادلفيا وتدمير معبر رفح بالكامل، لم يعلن الجيش حتى الآن أنه اكتشف أيًّا من الأنفاق التي يزعم نتنياهو وجودها وتربط بين مصر وغزة، فكيف يتم تهريب أسلحة في وجود سيطرة كاملة على المعبر والمحور، ناهيك عن وجود مئات من طائرات الاستطلاع التي تسكن سماء غزة منذ بداية الحرب؟
نتنياهو وجيشه يعلمون جيدًا أن أسلحة المقاومة تُصنع محليًّا من خلال الهندسة العكسية، وبعضها تم تصنيعة من خلال مخلفات الجيش الإسرائيلي التي لم تنفجر، وهو الأمر الذي لم تخفه حماس ونشرت فيديوهات متعددة لهذه المصانع المحلية، إذن ما المبرر الذي ما زال نتياهو يتمسك به لاستمرار احتلال معبر رفح وبقاء جيشه في محور فيلادلفيا؟ الجواب بالطبع هو المماطلة وإعادة احتلال القطاع وقطع أوصاله عن أي منفذ للعالم الخارجي، والأهم هو استمرار الحرب.
يبدو أن نتنياهو قد دخل في صراع قد لا يكون قادرًا على إنهائه، أو على الأغلب لا يريد إنهاءه، دون النظر إلى العواقب المحتملة على إسرائيل ومستقبلها، وما دامت الولايات المتحدة والدول الداعمة لإسرائيل تواصل غض النظر عن جرائم نتنياهو ويمينه المتطرف، وتوفر له الدعم العسكري وتغطي على أفعاله، فإن الصراع سيستمر ويتسع، ولا أحد يمكن أن يتكهن متى تنتهي الحرب، لأن من يواصل تأجيج نار الصراع، ويزيد من إمدادها بالحطب، لا يسعى إلى إخمادها.