“تزيين القفص”.. فن التمثيل على الشعب!
من بين مئات الفنون التي عرفها العالم قديمًا وحديثًا واهتم بتطويرها الممارسون، وبدراستها الباحثون، فإن فنًّا حديثًا أراه جديرًا بالاهتمام لكون منطقتنا العربية ببعديها الإفريقي والآسيوي شاركت فيه بـ”نصيب الأسد”، وكان لها فضل الريادة والسبق، ورغم ذلك فقد تجاهلت تدشينه ووضع إطار نظري يحفظ لها مقعد القيادة في التنظير إلى جانب مقعدها الرئيسي المطل على ميادين الممارسة.
أصبح “التمثيل على الشعب” فنًّا جديرًا بتهيئة الإحاطات الأكاديمية، والمناهج المتنوعة، مع توفر بيئة حاضنة تسمح لإقليمنا الكبير، ومن يدورون في فلكه وتخومه، باستباق أبواب الإبداع والتجلي نحو تحديث أنماطه الآنية ومآربه المستقبلية.
اختلاف المصطلح
يختلف مصطلحا “تمثيل الشعب”، و”التمثيل على الشعب”، اختلافًا جذريًّا، وإن اشتركا في اللفظ فإنهما يتنافران في المعنى، ومن المؤكد أن هناك فروقًا واضحة، فـ”الديمقراطية” مصطلح إغريقي قديم نشأ في أثينا ومدن اليونان قبل ميلاد السيد المسيح بعدة قرون وهو يعني “حكم الشعب لنفسه”، أما “التمثيل على الشعب” فهو مصطلح حديث أفرزته الممارسات المتعاقبة لأنظمة اتشحت برداء الديمقراطية في العلن وكفرت بها سرًّا، وكافحت لإجهاضها في كل تفصيلة، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.
اقرأ أيضا
list of 4 items25 يناير.. الحرية والمرأة والفن
غزة الأمل بين المتشائمين ومحترفي الصفقات!
في غزة قادة حرب ورجال تفاوض
لقد تسابقت معظم حكومات ودول ما يعرف بـ”العالم الثالث” إلى تطوير هذا الفن واجتهدت في استكشاف آلياته، واستحداث ما لم يكن موجودًا فيه، وإضافة طرق لتعايشه تنسجم مع خصوصية مجتمعاتنا التي تتلاطم فيها رياح الجهل والمرض والفقر.
وبينما طورت المجتمعات الغربية نظمًا توصف بالديمقراطية يتم فيها تداول السلطة وفق آليات محددة وتُحترم فيها إرادة الأغلبية دون إقصاء أو تعسف مع الأقلية فإن مجتمعاتنا أخذت من الديمقراطية شكلها ومظهرها وعجنتها بمياه أنهارنا القديمة بما فيها من طمي وعوالق لتصنع خبزًا غير صالح قدمته للشعب، في حين صار الوطن كله قربانًا يلتهمه وحده السيد الفرد -غير الصمد- الجالس أعلى كرسي العرش، حين يتفضل علينا ويتجشأ مبتسمًا وهو يظن أنه يُحسن صنعًا.
يجمع الفن الجديد بين التشخيص أو التمثيل وبين السلطة، وقد عُرف فن التمثيل قديمًا عبر الحضارات الإغريقية والرومانية والفرعونية قبل آلاف السنين، أما “الديمقراطية” فهي نظام للحكم يشترك خلاله أفراد الشعب في إدارة شؤون الحكم بطريقة مباشرة أو عبر ممثلين لهم في مجالس يختارونها بحرية دون إكراه.
يتعامل الفن الجديد مع الديمقراطية باعتبارها خيارًا ثانويًّا، ومع فن التمثيل باعتباره هدفًا رئيسًا في حد ذاته لا يتحدد فيه مدى الإجادة بمدى اقتناع الجمهور ولكن بقدر النجاح في إجباره على القيام بالتصفيق بحرارة دونما اعتبار لاختياره أو لفهمه أو حتى لتورم يديه.
كيف تصل إلى الحكم؟
في فن “التمثيل على الشعب” لن تصل إلى الحكم ابتداء بطريقة طبيعية كالأنظمة الديمقراطية التقليدية التي تصل عبر صناديق الاقتراع، وتنافس الانتخاب، وإنما الوصول إلى السلطة رهن بثورة أو شبه ثورة أو انقلاب أحمر في الميادين أو أبيض داخل القصور، أو اغتيال، أو تآمر، أو إزاحة ناعمة، أو خشنة، أو كارثة طبيعية، أو حرب أهلية أو طائفية، أو عدوان مقامر، أو انتفاضة شعبية يعقبها سقوط نظام وتغيير رجاله.
يتيح لك توقيت الوصول للحكم عقب أزمة كبيرة طبيعية أو مُخططة، فرصة جيدة لأن تقدم سيلًا من الأعذار للشعب لكونك وصلت في ظروف غير ملائمة كـ”منقذ”؛ مما يتيح لك لوقت طويل الشكوى الدائمة والتحجج المستمر بالميراث الثقيل والتاريخ المضطرب والفساد المتجذر، والظروف المحيطة، والعالم غير المواتي.
“التمثيل علي الشعب” فنّ يتيح لك اختيار معارضيك، ومنحهم أموالًا وهبات حتى يمكنهم معارضتك بـ”إخلاص”، وأن تختار منهم من يتم تكريمه لدوره في الحياة اللاسياسية وأن تُجري بينهم سباقًا للوصول إليك لكي يفوز بمنافستك في مسرحية الانتخابات أكثرهم إيمانًا بك واعتقادًا بعظم دورك، وأشدهم إنكارًا لذاته، واعترافًا بتهافت مسلكه، وإدراكًا لأهمية انتخابك باكتساح كرمز وطني وضعته أقداره لانتشال الشعب من الفساد والتخلف والدكتاتورية، وستجد دائمًا من يتباهون بشرف الخسارة منك ويتنطعون طالبين المزيد.
يمكنك وفق “فن التمثيل على الشعب” أن تتباهى بصناديق الاقتراع الفارغة حتى وإن بدت منتفخة، وبصفوف الناخبين الافتراضية حتى وإن ظهرت متزاحمة، وبنسب التصويت التخيلية حتى وإن كانت في الحقيقة صفرًا كبيرًا، وبأرقام الفوز الوهمي حتى وإن كان الوطن هو الخاسر الحقيقي.
كما يلزمك “التمثيل” باختيار أعضاء المجالس النيابية وفق الجاه والعشيرة ووفق قدراتهم المالية فالفقراء لا يجيدون تمثيل الشعب، ولا طاقة لهم بالحوار مع الأغنياء أو استخلاص العبر من حكمة تكدس كنوز الأرض في “الأيدي الناعمة”.
الشبل والأسد
في ممارسة “الفن الجديد” ستجد أقلامًا أجيرة يجف مدادها من اللهاث تحت أقدامك وهي تلهج تسبيحًا بحمدك، وفضائلك التي تضعك في مصاف الأنبياء، وستجد من يمتدحك لسعة صدرك واتساع أفقك رغم السجون المكتظة والأسوار العالية، والأبواق، والحراس، والأُسر المكلومة.
يتيح لك منظرو “فن التمثيل على الشعب” فرصة ألا تجعل لك نائبًا أو وليًّا للعهد في انتظار أن يشبّ أبناؤك عن الطوق، إن وجدوا، وعندها ستجدهم يتحدثون عن التحسب للقضاء والقدر ووجوب تمكين “هذا الشبل من ذاك الأسد”، أما إذا كانت امرأتك عاقرًا وقد بلغت من الكبر عتيًّا فستجد من يسبحون بحكمتك ويعلنون مسبقًا الالتزام بوصيتك في تولية ذي قربى أو ذي عهد.
تفترض قواعد “التمثيل على الشعب” أن تنذر حياتك كلها حتى الثواني الأخيرة في “خدمة” الوطن، ويستوجب تحقيق ذلك إسقاط كل التشريعات القاصرة عن فهم هذه “الضرورة الحتمية”، التي تكبلك عن إكمال مهمتك غير المقدسة، حتى وإن كانت ناموسًا سيارًا أو دستورًا قائمًا.
الخزائن والجوقة والقفص
ولأنك تتماهى وتمتزج بالوطن فإنك يجب أن تكون على خزائن الأرض، حتى وإن كنت غير حفيظ وغير عليم، وأن تكون مفاتحها بيدك وحدك لا شريك لك، ومن حقك وفق ذلك أن تكون التاجر، والصانع، والمزارع الوحيد، وصولًا إلى أن تكون أنت أيضًا المستهلك الوحيد، فلا مال إلا بيدك ولا إنفاق إلا من سبيلك.
لا يمكنك في هذا الفن أن تمثل وحدك بل تحتاج إلى جوقة كاملة من البشر العديمي الموهبة المعدومي الإحساس الحاضني الفساد، المنزوعي الضمير والكرامة، الذين يأخذون أدوارًا لا تناسبهم ويحصلون على أجور لا يستحقونها، جلودهم سميكة، وإن تصنعوا الرقة، عيونهم وقحة وإن ادعوا العفة، أنوفهم خاصمها الشمم، وإن كانت قيصرية الشكل، أعناقهم لا تعرف غير الانسحاق، وإن كانت زرافية الطول، ورؤوسهم تصاحب الانكسار والطأطأة، وزنودهم جُبلت على الانحناء وألسنتهم آلهتهم، وفيها هواهم.
تنمو الجوقة المحيطة وتتضخم ذواتها رغم جهلها المقيم وهي تتولى تجميل الواقع وزخرفة الحال والإيحاء بأن المحابس قصور فخمة وبأن أوكار العلل مشافٍ عالمية وبأن مقرات النفاق مجالس للذكر، وبأن كل شيء على ما يُرام مهما كانت الأوجاع والآلام.
من شرفة السخرية تطل مقولة الأديب الأمريكي الشهير جون ستاينبك حين قال: “عندما يُوضَع الإنسان في قفص، فإنّه يتخبَّط في البداية، ثم يبدأ بتزيينه”، وفي الواقع فإن الشعوب المبتلاة ينكرون أن ثمة قفصًا أصلًا ثم لا يُدركون التخبط، لكن المؤكد أنهم يعضون على نواجذهم، ويكظمون قهرهم، وهم يكافحون من أجل تزيين أقفاصهم وادعاء أنهم بخير.