مراجعات الإسلاميين بين الجدية و”الشكلانية”
حالة الاعتدال السياسي والديني التي ظهر بها قائد سوريا الجديد أحمد الشرع فتحت الباب لمناقشة تطور الحركات الإسلامية سياسيا وفكريا ودعويا، ومراجعاتها لأفكارها وممارساتها على ضوء خبراتها العملية بين الحكم والمعارضة، والعمل الدعوي والخيري، وحتى المسلح، واحتكاكها بالقوى العسكرية والسياسية والاجتماعية الأخرى.
لم يعد خافيا تطور الشرع ومجموعته، وانتقاله من تنظيم القاعدة إلى النصرة وصولا إلى هيئة تحرير الشام، وهو الانتقال التنظيمي الذي تبعه بل على الأرجح سبقه انتقال وتحول فكري، وإن كان البعض لا يزال مقتنعا بأن تحولات الشرع (الجولاني سابقا) هي مجرد تحولات شكلانية، حيث لم يثبت هذه التحولات الفكرية في وثائق يمكن الرجوع إليها، لكن الممارسات العملية منذ انتصار عملية ردع العدوان، وإسقاط حكم آل الأسد يوم 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي تبقى هي الدليل العملي، وإن جاز لنا القول إنها لا تزال بحاجة إلى مزيد من الوقت لاختبار صلابتها.
مراجعات الإخوان
قد يبدو مفاجئا للبعض أن الحركات الإسلامية في معظمها هي من أكثر القوى التي راجعت برامجها وسياساتها وأفكارها، وتراجعت عن بعض الأفكار والممارسات، أو توسعت في مهام جديدة، وإذا نظرنا إلى الجماعة الإسلامية الكبرى وهي الإخوان المسلمون فإنها مارست فضيلة المراجعة مرات عديدة، نذكر منها مراجعة فكر التكفير الذي انتشر بين بعض المنسبين إليها في السجون خلال فترة الستينيات، وقد تصدى لذلك علماء الجماعة المحبوسون، وعلى رأسهم مرشدها العام الأسبق حسن الهضيبي، وانتهت تلك المراجعات بصدور كتاب “دعاة لا قضاة” الذي رد على كل شبهات التكفير، وأوقف مد ذلك التيار في السجون وخارجها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأولوية إعمار غزة على الحج والعمرة هذا العام
عودة السوريين بين الارتياح العام وخسارة الاقتصاد التركي
الشرق الأوسط يستعد على عجل للحقبة الترامبية
كما راجعت الجماعة موقفها من بعض القضايا مثل المرأة والعمل الحزبي، والشورى في منتصف التسعينيات، وأصدرت بذلك وثيقة تضمنت موقفها الجديد الذي حمل تقدما في موقفها من ولاية المرأة، وحقها في عضوية البرلمان، وتولي المناصب القيادية، وإن بدا غير كاف من وجهة نظر بعض النقاد، وكذا موافقتها على العمل الحزبي (بعد أن كانت ترفضه)، وهو ما ترجمته لاحقا إلى عدة محاولات لتأسيس حزب سياسي انتهت بتجربة حزب الحرية والعدالة، وكذا موقفها من الشورى التي لم تكن تراها من قبل ملزمة، ولكنها أقرت بإلزاميتها في الوثيقة الجديدة، كما أن الجماعة أعلنت قبل عام تشكيل لجنة لمراجعة ممارساتها وسياساتها منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى الآن.
مراجعات سلفية
إلى جانب الإخوان فإن الجماعة الإسلامية المصرية خاضت أكبر عملية مراجعات في السجون منذ مطلع الألفية الثالثة، انتهت بإصدار خمس كتب تضمنت مراجعة ونقدا للعديد من الأفكار والممارسات السابقة فيما يتعلق بممارسة العنف، والموقف من المجتمع والأقباط، والخروج على الحكام إلخ، كما انتقلت الجماعة إلى العمل الحزبي عقب ثورة يناير عبر حزب البناء والتنمية الذي تم حله لاحقا في منتصف عام 2020.
وحتى السلفية العلمية راجعت موقفها من العمل الحزبي، والترشح للبرلمان الذي كانت تحرمه من قبل، وضمنت حيثيات ذلك التحريم في كتاب معروف بعنوان “القول السديد في بيان أن دخول البرلمان مناف للتوحيد”، لكنها تراجعت عن ذلك وأسست حزب النور وعدة أحزاب سلفية أخرى، كما أن شخصيات إسلامية كانت تنتمي للإخوان أو لغيرها من الجماعات في مصر غادرت هذه الجماعات، وأسس بعضها أحزابا سياسية، ولكن جماعات هامشية إسلامية أخرى انتهجت العنف، والتكفير، واستباحة الأموال ظلت على مواقفها حتى اندثرت بفعل الضربات الأمنية أو لتسرب منتسبيها منها تباعا واعتزالهم العمل، أو اللحاق بجماعات أخرى معتدلة.
بين المغرب والمشرق
في بلاد المغرب العربي كانت الحركات الإسلامية الأكثر جرأة في مراجعة أفكارها وسياساتها، حدث ذلك بشكل بارز في حركة النهضة التونسية التي مرت بعدة مراحل في هذه المراجعات منذ مطلع الثمانينيات، وكان أحدث جولاتها عام 2016، حين قررت بشكل واضح فصل العمل السياسي عن العمل الدعوي بشكل تام، وهو ما حدث في المغرب أيضا مع حزب العدالة والتنمية الذي انفصل عن حركة التوحيد والإصلاح، وكانت الحركة الإسلامية في السودان بقيادة الترابي هي الأسبق إلى المراجعة والتطوير منذ الستينيات، وكان للترابي اجتهادات سياسية عديدة كان بعضها صادما في حينه.
وإذا ذهبنا إلى المشرق الإسلامي فإن العديد من الحركات الإسلامية طورت مناهجها، وعدلت الكثير من أفكارها وممارساتها في ظل أجواء سياسية منفتحة سمحت لها بالمنافسة، والاحتكاك بالقوى الأخرى كما هو الحال في إندونيسيا وماليزيا، وباكستان، وبنغلاديش، وإذا كان البعض يرى أن حركة طالبان لا تزال متشددة، فإن الحركة في نسختها الحالية تختلف كثيرا عن نسختها الأولى (أواخر التسعينيات). لقد نزلت الحركة من الجبال، واحتكت بأهل المدن، وثقافتهم، وبتكنولوجيا الاتصالات الحديثة، وعالم الأقمار الصناعية، وهو ما فرض عليها تطوير أدائها وممارساتها، لكن استمرار الحصار الدولي عليها يحد من هذا التطوير.
يطالب الكثيرون دوما الحركات الإسلامية بمراجعة أفكارها وممارساتها، وهو مطلب مشروع، ولا يزال أمام هذه الحركات المزيد من الأفكار والممارسات التي تحتاج إلى مراجعة وتطوير، لكن ذلك لا ينبغي أن يقتصر على الإسلاميين بل يلزم أن يشمل غيرهم من القوى السياسية والفكرية والاجتماعية التي تجمد الكثير منها عند مقولات الثلاثينيات أو الستينيات، ينظر في المرآة فلا يرى إلا نفسه، ويتخذ من أفكاره مقياسا لغيره، اقترابا وبعدا، ويصعب إن لم يكن مستحيلا بالنسبة له الاعتراف بأخطائه بينما يواصل جلده للآخرين.