الأفكار لها أجنحة تطير!

يخشى أصحاب السلطة والنفوذ تقلص سلطاتهم وانحسار نفوذهم في الحياة من كلمة أو فكرة، وبهذا نشأ الصراع بين قوة الكلمة وقدرتها على التعبير، وبين سيف وقوة النفوذ لأصحاب السلطان.
لم يكن أنبياء الله سوى كلمة، دعوة بالكلمة لا تحميها قوة ولا سيف، لم يكن عيسى سوى كلمة، ومحمد كلمة، وموسى كلمة، فالكلمة فرقان بين نبي وبغي بحسب الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي في رائعته المسرحية الحسين ثائرا.
لكن أصحاب السلطة والنفوذ يطاردون الكلمات، فيحبسونها داخل زنازين حكمهم مستخدمين قوتهم الباطشة في تعذيب أصحاب الكلمة ظنا أنهم يحجبونها عن المحكومين، فلا تصل إليهم فتكون غضبا عليهم. بهذا الضيق يبنون سجونا، ويحبسون أصحاب الكلمة من المثقفين والمبدعين، ولا يدركون أن للأفكار أجنحة تطير لا تحدها جدران ولا يمنعها أسوار ولا يقف على بابها سجان.
المصير وأعمال أخرى
كانت جملة الختام في فيلم يوسف شاهين المصير، وأسنة النار تحرق كتب العلامة الأندلسي أبو الوليد محمد بن رشد الأندلسي بواسطة جنود المنصور حاكم الأندلس: “الأفكار لها أجنحة”. وبينما كانت أسنة النار ترتفع كانت كتب ابن رشد تعبر الحدود وتصل إلى من يعطيها حقها ويحفظها، ليبقى إنتاج ابن رشد في التاريخ محفوظا، ولا يبقى لممالك الأندلس أثر سوى أسى وحزن على ممالك أضاعوها الحكام بضيق الأفق وعجز العقول، والاستبداد، وهكذا في كل عصر منذ كانت أول كلمة وحتى الآن صراع بين الكلمة والسيف.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsإعادة تدوير القول الغربي!
لماذا سفير لأمريكا في إسرائيل؟!
نادر فرجاني.. تذكر مستحق في أربعينيته
يصرخ الشاعر صلاح عبد الصبور في قصيدته “يوميات نبي مهزوم يحمل قلما ينتظر نبيا يحمل سيفا” معبرا عن طغيان السيف في مواجهة الكلمة:
“هذا ما خط في اليوم الثالث”
لا أملك أن أتكلم
فلتتكلم عن الريح
لا يمسكها إلا جدران الكون
لا أملك أن أتكلم
فليتكلم عني موج البحر
لا يمسكه إلا الموت على حبات الرمل
لا أملك أن أتكلم
فلتتكلم عني قمم الأشجار
لا يحنيها إلا ميلاد الأثمار
لم تكن صرخة عبد الصبور إلا تعبيرا عن قهر الكلمات وقدرة السيف على حبسها وهذا الصراع الذي تبدى عبر العصور، إذ لم تكن مأساة الحسين بن منصور الحلاج التي صاغها عبد الصبور في مسرحية شعرية فريدة سوى صراع بين الكلمة وطغيان السيف والقوة، ولم يكن صراع ثوبان بن إبراهيم الأخميمي المعروف باسم (ذو النون المصري) سوى صراع بين كلمته وحاشية وفقهاء الخليفة العباسي المتوكل الذين أوشوا إلى الخليفة أنه زنديق ويتمنطق بالكلمات فسجن وعوقب.
سترى ذلك أيضا في قصص الإمام الشافعي وأئمة الفقه الإسلامي. فتقريبا ما من فقيه أو مفكر أو مبدع إلا واجه التعذيب والقهر والسجن بسبب الكلمة، وما سجن كثيرون في العصر إلا جراء ما خط قلمهم أمثال: يحيى حسين عبد الهادي، سيد صابر، عبد الخالق فاروق، محمد عادل، وغيرهم كثيرون، أو ما قالت أفواههم مثل: عبد المنعم أبو الفتوح وهشام جنينة، ومنهم من مات قهرا.
فؤاد حداد سجينا
عانى المثقفون المصريون على مدار سنوات طويلة من الحبس والاعتقال بسبب أعمالهم التي أبدعوها، وهنا لا أناقش صحة ما أبدعوه من عدمه، لكني أرصد الصراع بين أصحاب الكلمة وأصحاب السلطة في نهاية الأمر. لا يحق لمن يكتب أو يتكلم أن يُناقش بالحبس والجلد والتعذيب!
في العهد الملكي بمصر ستجد تهمة قانونية صريحة اسمها “العيب في الذات الملكية” عانى منها كتّاب ومثقفون بل ونواب في مجلس النواب أو الشيوخ، ومن أبرز أسماء الكتّاب: إحسان عبد القدوس، نجيب أبو الخير.
شهد العهد الناصري اعتقال وحبس الكثير من الكتاب والمثقفين خاصة من اليسار المصري الذي بدأ صداما مع ثورة يوليو مبكرا، وسبق صراع الثوار مع جماعة الإخوان المسلمين الذي أخذ حيزا كبيرا من الرصد والتوثيق بفعل تنظيم الجماعة وامتلاكها قدرات إعلامية خاصة أضخم من اليسار.
الغريب أن من قاموا بحذف أغاني أم كلثوم من الإذاعة المصرية حبسوا مثقفين ومبدعين أقرب ما يكونوا إلى أفكار يوليو وتوجهاتها حتى أن معظم هؤلاء قدموا أعمالا روائية وكتبا ثقافية وإبداعا فنيا وفكريا مدافعين عن يوليو وتجربة عبد الناصر بعد خروجهم من الاعتقال.
فؤاد حداد الشاعر المصري الكبير كان من الذين زاروا سجون الدولة الناصرية مرتين، الأولى في عام 1954 لمدة شهرين مع عدد كبير من مفكري ومبدعي اليسار المصري، أمثال: حسن فؤاد، محمود أمين العالم، عبد الرحمن الخميسي، وغيرهم، قبلها في العهد الملكي حُبس حداد في 1950 وهو الاعتقال الذي شهد ميلاد ديوانه الأول “أحرار وراء القضبان”.
اعتقل حداد مرة ثالثة عام 1958 واستمر حبسه أربع سنوات. الغريب أن كل أفكار حداد الإبداعية كانت متوافقة مع توجهات يوليو إذ دافع عن العمال، الفلاحين، الصناع، وكل فئات الشعب. دافع عن القضية الفلسطينية وكان صوتها المبدع، وكذلك عن العدالة الاجتماعية، وهو ابن الطبقة الثرية، وعن الوحدة العربية والقيم الإنسانية، أي كان صوتا فريدا لأهداف يوليو. بل إنه كتب ديوانا شعريا بعنوان “استشهاد جمال عبد الناصر” لكن أحيانا تجد حول السلطة من يكون ملكيا أكثر من الملك.
ستجد مثال فؤاد حداد متكررا مع مفكري ومبدعي اليسار المصري الشيوعي. أغلب من سجن في العهد الناصري منهم كانوا أصوات مؤثرة في الدفاع عن عبد الناصر بعد غيابه وبدء الهجمة على التجربة الناصرية وأصبح هؤلاء مدافعين عن التجربة الناصرية أمثال محمود أمين العالم، جابر عصفور، ومن المبدعين سيد حجاب، سيد خميس، عبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم ولكل هؤلاء إبداع في تجربة يوليو.
عبد الرحمن الأبنودي الذي اعتقل في العصر الناصري كتب قصيدة بعنوان “يعيش جمال عبد الناصر”:
أعداؤه كرهوا ودي نعمة
ومن كرهه أعداؤه صادق
في قلبه كان حاضن أمة
ضمير وهمة ومبادئ
ساكنين في صوت عبد الناصر
ولأحمد فؤاد نجم قصيدة أيضا وهو الذي حكى لحظة وفاة جمال عبد الناصر في السجن عندما رأى أمه تبكي أمامه في الزيارة فاستغرب أن تبكي الأم لوفاة الرجل الذي حبس ابنها فقالت له بصوت مبحوح بالبكاء “أبوك مات النهاردة” استغرب نجم ولكنه بعد سنوات كتب قصيدته زيارة إلى ضريح عبد الناصر.
تجربة اليسار المصري تختلف عن تجربة جمال عبد الناصر مع تيار الإخوان المسلمين في السجون والمعتقلات، ولعل تجربة سيد قطب تحديدا مثالا غريبا عن تحولات العلاقة إذ كان سيد قطب أديبا ومفكرا قريبا من التجربة الناصرية بل كان مرشحا ليكون أحد مفكريها بقربه من سلطة يوليو ودعمه لها، ولكن تحولات مرت بأفكار قطب فكانت النهاية المعروفة فيما بعد أحداث 1965. ظني أن سيد قطب لم يعاقب على أفكاره، بل حُسبت تجربته في النهاية كتجربة فكرية.
وفي المقال القادم نستكمل رحلة الصراع بين الكلمة والسيف في ما بعد العصر الناصري.