الدولة القومية والنظام الدولي.. خلفيات تاريخية ومعرفية

تمثال نابليون بونابرت وقد علقت عليه صورة لفيليب ديغول نجل شارل ديغول في باريس (رويترز)

في فيلم وثائقي حول سياسات الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1962) تجاه فرنسة الجزائر، واستحداث كيان استيطاني فرنسي على أرضها، لفت الراوي لاختلاف معاملة الإدارة الاستعمارية الفرنسية للجزائريين زمن نابليون الثالث عنها لاحقا في زمن الجمهورية الفرنسية، وذُكِر أن حكومة نابليون الثالث عينت لحكم الجزائر جنرالاً فرنسياً (مسلماً!)، وأنه لم يتعسف بحق أهلها، كما وقع بعد عودة الجمهورية الفرنسية!

لفتني ذلك للفروق بين الدولة الإمبراطورية والدولة القومية وعنف الأخيرة وعنصريتها، رغم أن نشوء الدولة القومية الفرنسية بدأ قبل اندلاع الثورة الفرنسية (1789)، وقبل قيام الجمهورية والإمبراطورية، لكنها بلغت ذروتها بعودة الجمهورية بعد نابليون الثالث.

الدولة-الأمة

ارتبطت الدولة القومية الحديثة أو الدولة-الأمة Nation-State بأوروبا بتطورات هامة شهدها التاريخ والاجتماع الأوروبي أواخر العصور الوسطى وبعدها:

– عصر النهضة (1420-1600) التي أحيت معمار وفلسفة ودراما وميثولوجيا الإغريق والرومان،

– وحركة الإصلاح الديني البروتستانتي (1517-1648)،

– وحروب الثلاثين عاما الدينية التي آلت لصراع توسع وسيطرة على بلدان أخرى، وانتهت بمعاهدة ويستفاليا (1648)،

– وانطلاق حركة الاستعمار بالقرن 16 شرقا وغربا، بزعم اكتشافات جغرافية وتجارة في سياق إمبريالي.

بنهاية حروب الممالك الكاثوليكية والبروتستانتية، أسست ويستفاليا مرحلة من السلم الأوروبي أو “سلم ويستفاليا”، والنظام الأوروبي الذي تلاها، ووضعت حجر أساس الدولة القومية، وكرست “الاستقلال” و”السيادة” على إقليمها، وحصنتها نظريا على الأقل ضد تدخلات الخارج.

دعم الإصلاح البروتستانتي قيام الدولة القومية نظراً لانشقاقه أصلاً عن الكنيسة الكاثوليكية (العالمية)، أو كنيسة الرب الواحدة، رفضاً لسطوة البابا على أوروبا ديناً وشعوباً وملوكاً. ونالت البروتستانتية حماية ملوك محليين بألمانيا القديمة وهولندا وشمال أوروبا بغية الإفلات من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية. وأدّت الكنائس البروتستانتية دوراً محورياً في قيام الدول القومية وصياغة هويتها، ورسمتها الدساتير مكوناً عضوياً في بنيانها.

كذلك دعا مارتن لوثر (1483-1546)، زعيم الإصلاح البروتستانتي إلى ترجمة الكتاب المقدس للألمانية، وأوجبت البروتستانتية على المؤمنين تعلم القراءة والكتابة لقراءته مباشرة، وهي خطوة هامة نحو بلورة الأمة والدولة القومية الألمانية.

إحياء العهد القديم

قد يزعم البعض أن الألمان، كما العرب والترك والإيرانيين، أمم سبقت قيام الدول القومية، مع ملاحظة أن كلاً من تركيا وإيران دولة قومية حالياً، بينما لم تقم دولة قومية عربية معاصرة، ما يظهر غَلبة القُطرية الأكثر هشاشة وتنحية الإسلام والعروبة معاً، ودور الهيمنة الغربية، ويفسر هشاشة العرب إزاء العدوانية الإسرائيلية.

وفي مواجهة المرجعية الكاثوليكية المستندة للمقدس، أناجيل وأسفار العهد الجديد، مع إغفال شبه متعمد للعهد القديم نظراً لإشكالياته العديدة، امتشق مارتن لوثر العهد القديم باعتباره نصاً مقدساً وأساساً لمرجعية دينية وسردية موازية للمرجعية الكاثوليكية، وأحيا بذلك أسفاره وقصصه وروحه العبرية.

أدّى ذلك لتحولات عميقة في “المسألة اليهودية”، وآثار بالغة أتاحت دخول المحتوى اليهودي والروح العبرية إلى الحياة الدينية البروتستانتية خاصة لدى المستوطنين الأوروبيين الذي تبنوا مرجعية العهد القديم وعاشوا قصصه وتمثلوا أبطاله وسرديته وجغرافيته وتعبيراته، منذ بدء تجربة الاستيطان قبل 5 قرون وحتى اليوم.

اعتبر مهاجرون لأمريكا الشمالية، غير مرغوب بهم في أوروبا، أنهم خرجوا من الأسر الفرعوني، كما فعل بنو إسرائيل في العهد القديم، إلى أرض الميعاد أو “إسرائيل الجديدة” بأمريكا الشمالية، وهنا مفتاح تجربة الاستيطان الأوروبي. وقد كتب بعض المهاجرين على السفينة التي نقلتهم لأمريكا صيغة ميثاق مع الرب تضاهي عهد بني إسرائيل مع الإله يًهْوِه في العهد القديم. وكان ديفيد بن غوريون يرى أن يَهْوِه كان إلهاً بلا شعب لشعب بلا إله!

الخطاب الاستيطاني

وقد حفل الخطاب الاستيطاني هناك بأسماء جغرافية التوراة وتعبيراتها مثل: “ميثاق الرب”، و”شعب الله المختار”، و”أرض الميعاد”، و”أرض كنعان”، و”مدينة على جبل”، و”منارة بين الأمم”. ووجدت بعض شرائع اليهود وممارسات بني إسرائيل التاريخية سبيلها إلى حياة وتقاليد وقوانين المستوطنين، كتقليد شخصيات أنبياء العهد القديم والزواج بالمحارم وتعدد الزوجات، خاصة بمناطق الاستيطان المبكر النائية.

ومن سردية التوراة استمد المستوطنون الأوروبيون روح ومنطلقات مشروع الاستيطان والإبادة ومشروعيتهما غزواً وتوسعاً وتطهيراً عرقياً. اتخذت الإبادة ثلاثة أشكال: إبادة جماعية لشعب وإحلال آخر مكانه، وإبادة تاريخ مديد سبق الاستيطان، وإبادة حضارة ثرية وإنسانية.

وقد وجد باحثون أمريكيون أن الدين العام أو “الدين المدني” الأمريكي، دين الدولة القومية الأمريكية ومؤسساتها وتصوراتها وأساس منظومتها القانونية، مستوحى من أيديولوجية طائفة البيوريتان (التطهريين) إحدى أقدم الطوائف المهاجرة لأمريكا الشمالية بعد مقتل أوليفر كرومويل (1599-1658) وانهيار ثورته بإنجلترا (1653-1658) التي سيطرت على برلمانها، وأن “الدين المدني” يتخذ إله العهد القديم “يهوه”، بعنفه وعنصريته، مرجعاً أعلى للدولة والاجتماع، مما يفسر شراسة الدولة الأمريكية وعنفها وسلطويتها وعدوانيتها وتطرف قوانينها.

محرك أيديولوجي

رافق هذه المراحل، فكرياً وفلسفياً، تبلور الحداثة الأوروبية، ونشأت عنها نظرية معرفية، واكبت المشروع الإمبريالي الأوروبي وزودته بمحرك أيديولوجي، وقد أطلق عليها عبد الوهاب المسيري (1938-2008): الرؤية المعرفية الإمبريالية، التي تنكر التكريم الإلهي للإنسان واستخلافه في الأرض ومركزيته في الوجود وحصانته بشريعة الله من الظلم والقهر والاستغلال والإبادة.

فاتسمت الرؤية المعرفية الإمبريالية بنزعتها العنصرية نحو الصراع والنفي والمركزية الأوروبية واختزال الظواهر الإنسانية الأخرى وإنكار عقلانيتها، ورهاب الآخر وتنميطه وإنكار شرعية وجوده، ونزوع للعنف والإبادة في التوسع وحل الصراعات، وضيق مساحات التنوع والتعدد خارج “المثال الواحد” المعتمد.

انعكست هذه السمات، صريحةً أو كامنةً، على نموذج الدولة القومية الحديثة. فهي بطبيعتها “دولة عميقة” دائماً ومطلقاً، متغولة وهرمية البنيان، تُراكِم السيطرة والجباية، وتحتكر أدوات الإخضاع والعنف وتشريع الدساتير والقوانين وتفسيرها، وإنفاذ الأحكام والتنظيمات، ولا تقبل بمرجعية خارجها أو هويات محلية موازية أو ولاءات فرعية أو نتوءات ثقافية أو خصوصيات إثنية، خارج هيمنة المتروبوليتان ومعاييره.

رافق الانتقال إلى نموذج الدولة القومية ضمانات، وحقوق مواطنة، وتعددية حزبية، وضوابط وتوازنات دستورية، وبرلمانات منتخبة، وفصل بين السلطات، لأجل بناء الأمم وتحرير الأقنان والمهمشين، وتجنيدهم بالمشروع الإمبريالي. لكن لا يزال حكم الدولة (“الأخ الأكبر” أو “العم سام”) سُلطوياً شمولياً ساحقاً، يكرّس قوة المركز ويهمش الإنسان، بلا توازن حقيقي بين سلطات الدولة وحقوق الناس، التي لا تقوم إلا بنص، فلا حقوق ربانية أو طبيعية أصلاً!

نظرياً وعملياً، يمكن للدولة استخدام سلطات الادعاء والاتهام والحبس والملاحقة القضائية، سلاحاً للدمار الشامل، تستهدف بها الدولة شخصاً، وتدمره مالياً واجتماعياً ووظيفياً، وبأموال دافعي الضرائب، وتعرّض أسرته للجوع والتشرد والتمزق والطلاق، وقد يأتي الحكم ببراءته، لكن متأخراً جداً.

قرون البؤس البشري

هنا يأتي سؤال “معرفي” طرحه مولانا شمس الدين التبريزي على مولانا جلال الدين الرومي في لقائهما الأول: لماذا نقول كل هذا الذي نقول؟!

حاولت هذه السطور رسم صورة إجمالية لنشأة وقيام وسمات نموذج الدولة القومية الحديثة، وارتباطها العضوي بالمشروع الغربي الاستيطاني الإمبريالي ككل بركائزه الأربع: الإمبريالية، والرأسمالية، والعنصرية، والفاشية (صريحةً وكامنةً).

لم يقتصر دور الدولة القومية على تشكيل النظام الأوروبي وامتداداته شرقا وغربا، بل تم تعميم هذا النموذج والرؤية المعرفية الإمبريالية عالمياً، فأصبحا أساس النظام الدولي الاستيطاني الإمبريالي الذي يطحن البشرية منذ خمسة قرون، وأذاقها ويلات الاستعمار والاستيطان والقهر والإبادة والنهب والإفقار وبؤس العيش، ودمّر منظومات التكافل والتكامل والتسيير الذاتي الإنسانية والاجتماعية بمختلف أصقاع الأرض.

في ضوء مستجدات العقود الأخيرة، بدأ هذا النموذج يتفكك أمام تفاعلات التاريخ والاجتماع، مما يمنح أملاً في غد مشرق بدون نظام الهيمنة الغربية والدولة القومية الذي توقع مؤرخ فرنسي أن ينتهي لمجرد فاصلة في متون التاريخ. وقد نعود مستقبلا لاستكشاف آفاق انهيار هذه المنظومة العقيمة، وتناول التجربة العربية مع الدولة القطرية.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان