تونس في عين اللامبالاة

قيس سعيد أطاح بالبرلمان المنتخب في 2021
الرئيس التونسي قيس سعيد (غيتي)

قبل قليل من الذكرى الرابعة عشرة لنجاح الثورة التونسية في الإطاحة بالدكتاتور الطاغية، الذي يصادف اليوم، قال موقع “تونس تايمز” الإلكتروني في 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي 2024 إن نشرة الطقس أصبحت أكثر أهمية من أخبار الانتحار بالبلاد، وذلك في سياق خبر عن ثلاثة أقدموا خلال 24 ساعة على إحراق أنفسهم على طريقة البوعزيزي سيدي بوزيد، وهو بمثابة المفجر أو الشرارة في قاموس انتفاضات وثورات العرب في القرن الـ21.

تقدم مستمر في

الاتجاه المعاكس

لو شئنا تلخيص المشهد بتونس اليوم للاحظنا أربعة ملامح تدل على كل منها وقائع عديدة:

الملمح الأول.. ما زال انقلاب صيف 2021 على الثورة ومسار الانتقال إلى الديمقراطية وبناء المؤسسات صامدا، يتقدم في مساره المعاكس مستندا إلى جهاز الدولة، وحالة إقليمية دولية بين التأييد والتغاضي.

ألقى إلى صندوق القمامة بدستور 2014 الأكثر تحررا وديمقراطية وتقدمية في تاريخ تونس ومحيطها العربي، الذي كان محل نقاش مجتمعي ديمقراطي، واستبدله بدستور اخترعه حكم الفرد على المقاس، وأنجز العديد من القوانين بمراسيم رئاسية تسلطية سممت المناخ السياسي والمجتمعي.

وقوض الانقلاب البرلمان التعددي ومعارضته والهيئات المنتخبة بحق والمؤسسية واستقلالية هيئات الانتخابات والرقابة ومكافحة الفساد، ومعها القضاء والإعلام العمومي. وأعادها جميعا تقريبا في خدمة “سيدي الرئيس”، مع مفردات قاموس الدكتاتورية البغيض وعبارات الطاعة والنفاق، على غرار “أسدى تعليماته”، بعدما اختفت على مدى عقد كامل.

بل أجهز على ما تحقق للتونسيين من تقدم مقارنة بماضيهم والمحيط الإقليمي بشأن علاقة السلطة بالمواطنين، فالقرارات الرئاسية تصدر بليل وبدون تفسير أو نقاش أو رقابة برلمان واعتبار لرأي عام. وتوقفت جهود لم تكتمل بتونس في عشرية ما بعد الثورة من أجل “الأمن الجمهوري” غير القابل للتوظيف سياسيا، وحياد الإدارة، واستقلالية المؤسسات.

لم ينجح الانقلاب وحسب في إعادة الخوف إلى المجال العام وتقليص مساحات الحريات والحقوق المكتسبة بعد الثورة، بل استكمل مهمة الثورة المضادة في إشاعة اليأس بين المواطنين من أمل الثورات ونتائجها.

معارضة متفرقة عاجزة

الملمح الثاني.. عجز معارضو الانقلاب ونتائجه عن الوصول بالتعبئة والتنظيم إلى بناء ومراكمة تحدٍّ حقيقي، وتقديم بديل سياسي يحسب له حساب.

صحيح أنه بمرور الوقت غادر العديد من الشخصيات والتنظيمات مربع التأييد للانقلاب والتسامح معه، بدعوى أنه “حركة تصحيح للثورة”، إلى مربع معارضته.

لكن بقي ثمة تناقض لم يعالج بعد بين اتساع جبهة معارضي الرئيس سعيّد وبين تفرقها إلى معارضات متنافرة تحكمها خصومات الماضي القريب. وكذا تآكل حضورها الجماهيري في الشارع، وداخل ما بقي من مؤسسات الدولة، وبالأخص النواة الصلبة لمعارضة الانقلاب منذ وقوعه عند حزب حركة النهضة/ جبهة الخلاص الوطني.

ويبدو ضعف وهشاشة و”قلة حيلة” معارضي إعادة إنتاج الحاكم الفرد/ السلطات كلها/ الدولة كافة إزاء توظيف أجهزة الأمن والنيابات والقضاء لتصفية معارضي السلطة ومنافسي رأسها، وبخاصة منذ حملة اعتقالات قياداتها في فبراير/شباط 2023. وهذا على الرغم من مبادرات المقاومة إزاء هذا التوظيف والتضحيات المبذولة فرديا وجماعيا.

كما رسبت كبريات مؤسسات المجتمع المدني في اختبار الدفاع عن الديمقراطية والثورة، سواء حين تبنت مواقف إلى جانب الانقلاب ومتغاضية عنه، أو عندما عجزت لاحقا عن مكافحة آثاره والتصدي لها.

وهكذا وصولا إلى الصمت والانسحاب من مجالات عامة وسياسية وحقوقية كانت تصول وتجول بها قبل الانقلاب، إيثارا للسلامة ولتجنب استغلال الدولة البوليسية في خدمة حكم الفرد لعيوب بنيوية ومسالك غير ديمقراطية وشبهات فساد لتتغول عليها وتتدخل في شؤونها، وتطيح بقياداتها ولو بتهم كيدية. ولعل ما جرى لاتحاد الفلاحة 2022 كان بمثابة رأس الذئب الطائر.

تدهور شعبية

“سعيد” ومسار 25

الملمح الثالث.. تدهور شعبية الرئيس “سعيّد” ومساره الانقلابي، كما يعكسها انخفاض قدرة مؤيديه على التعبئة الجماهيرية في الشارع وغيره من فضاءات عامة مقارنة بالمعارضة، والتدني غير المسبوق منذ 2011 في المشاركة في الانتخابات برلمانية ورئاسية، مع تدهور الأحوال المعيشية.

وفي سياق هدم ما كان خلال عشرية ما بعد الثورة، جرى تقييد ومنع استطلاعات رأي انطلقت محليا منذ 2014 حول شعبية المرشحين للرئاسة والبرلمان، بزعم حماية الناخبين من تأثيراتها، وآخر ما وصل إلينا من نتائجها يفيد بانخفاض في شعبية سعيّد، وتزايد إحجام المستجوبين عن كشف نياتهم التصويتية، وعدم اكتراثهم بأي انتخابات مقبلة.

بل عادت الأنباء والشائعات والشبهات عن فساد العائلة الرئاسية والحاشية. والعبرة هنا أن الانقلاب على الديمقراطية والحريات بدعوى القضاء على الفساد والفوضى وتشاحن الأحزاب يقود إلى فساد أكبر أكثر حصانة وتوحشا جراء حكم الفرد المديد وتغول الأجهزة الأمنية وخضوع كافة السلطات وأدوات الرقابة لهما، وغياب الصحافة الحرة والبرلمان التعددي وتداول السلطة. وهذه هي تماما خبرة انقلابات المشرق العربي منذ الخمسينيات.

وتماما كخداع وخيبات مقايضة الحرية برغيف الخبز، وإذ تتضمن الدعوات إلى التظاهر اليوم شعار “لا شغل لا حرية لا كرامة وطنية” وفق نداء “الشبكة التونسية للحقوق والحريات” المعارضة، وتضم أحزابا ومكونات تسامح بعضها مع الانقلاب في البداية نكاية في النهضة ومن تحالف معها في الحكم سابقا، وجراء الإخفاق في تلبية طموحات الثورة في التنمية والعدالة الاجتماعية وتحسين الأحوال المعيشية للأغلبية.

فقدان الاهتمام

والثقة

الملمح الرابع.. تراجع الاهتمام والثقة دوليا فيما يجرى بتونس، ويكفي ما أوجزته السيدة أنييس كالامار الأمينة العامة للعفو الدولية في ختام زياتها لتونس في يوليو/تموز 2024، حين عبرت عن الحزن والقلق “للتراجع الجذري عما حققته البلاد في مجال حقوق الإنسان منذ ثورة 2011″، وكذا تأخر ترتيب تونس في التصنيف العالمي لحرية الصحافة (منظمة مراسلون بلا حدود) إلى 118 بين 180 دولة، وذلك بعدما تقدمت إلى المرتبة 72 خلال العام السابق مباشرة للانقلاب 2020.

حقًّا كان ما أطلق عليه “الاستثناء التونسي” نحو التغيير والمواطنة والديمقراطية دوما عرضة للتقدم والتراجع، وفي محيط إقليمي معاكس مناوئ لم يتورع عن إمداد الداخل بمعاول هدم لما تحقق، وخصوصا أنه سرعان ما طبع العشرية اللاحقة لعام 2011 تراجع تلو آخر في هوامش الحريات والحقوق بالمغرب العربي الكبير وبمجمل المنطقة جراء إجهاض الثورات والانتفاضات العربية، وبخاصة بعد صيف 2013 المصري.

لكن ظل ما بدا استثناء تحت أضواء المتابعة والنقد، ولم يخفت الاهتمام بتونس، مع أمل لا يخبو في النجاح. ويؤسف ويحزن أن تسود اليوم اللامبالاة عند الخارج، فيتراجع حضور الصحفيين الأجانب في بلد كانت تحولاته بعد 14 يناير محل اهتمام الإنسانية والعالم، وأن يقتصر هذا الاهتمام على اتفاقات أوروبية وأمريكية، ومع حكومات اليمين العنصري، تمس سيادة البلد وحقوق المهاجرين واللاجئين. وهي بدورها اتفاقات تحوطها شبهات فساد اللاشفافية.

بل تضرب اللامبالاة عموم التونسيين، أو معظمهم، ويصبح كأن أي شيء يتساوى مع كل شيء، وبالتالي تكون إزالة حكم الفرد وأسباب ثورة 2011 كاستمرارها. وهكذا تعود السلبية الأشد خطرا مما كنا نلاحظه مع تراجع المشاركة في الانتخابات العامة مرة تلو أخرى خلال عشرية ما بعد الثورة. وهذا فضلا عن من تلاحقهم المحاكمات والسجون والاضطهاد من ساسة مختلفي الاتجاهات وصحفيين ومحامين ومدونين وغيرهم.

لكن هل يدوم الحال؟

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان