الكلمة والسيف

للسلطة الحاكمة أدواتها المستحدثة والعابرة للزمن في ملاحقة الكلمة التي تنتقدها، وقد كان المنفى عقاب المعارضين للسلطان فيما قبل، يصدر الملك أو السلطان قرارا بنفي الكاتب أو المعارض إلى خارج البلاد ليعيش خارج الوطن، وكانت هذه العقوبة قاسية على أصحاب الكلمة تبعدهم عن أهلهم وذويهم، وفي العصور الحديثة وما بعد عصر استقلال الدول لم تعد الدولة تصدر قرارا بالنفي؛ فقد أصبح القرار نفسه مكلفا لها وصار الخروج من الوطن قرارا شخصيا لأصحاب الكلمة هروبا من السجن والاعتقال وبحثا عن منفذ للكلمة، وقد بدأ هذا في عصر الرئيس المصري أنور السادات.
في التاريخ كانت هناك حالات كثيرة في اختيار منفى أو مقر لمن يختلفون مع السلطة الحاكمة، ولعل تجربة حسن الصباح والحشاشين كانت أخطر هذه التجارب، فقد شكل الصباح بأفكاره دولة جديدة بمعايير مغايرة للسلطة والأمة، بل وامتدت إلى العقيدة وكانت قلعة آل موت محل هذه الدولة والعقيدة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالطوفان والقيصر.. الجزيرة والانفراد.. التوثيق والتاريخ!
“سيناء” بقلم “حسن البنا”!
الأسبوعان الأكثر ضررًا في تاريخ الرئاسة الأمريكية
وقد تنوعت أساليب المنع عبر التاريخ وظهرت الرقابة على الكلمة والإبداع وصارت محاكم التفتيش التي ظهرت في عصور أوروبا الوسطى تنتشر بأشكال جديدة تشمل مراقبة نشر المقالات والأخبار التي لا تريدها السلطة، ومع ظهور فنون كالسينما والتلفزيون كان عقاب المبدعين المنع من العرض وحذف مشاهد معينة من الإبداع السينمائي كل هذا في محاولة منع الكلمة من الوصول إلى الجمهور، وكانت هذه الأساليب أقل وطأة وكلفة نفسية وجسدية من الحبس والاعتقال.
كانت تجربة المفكر المصري جمال حمدان التي بدأت في نهاية الستينيات نتيجة تعسف أحد رجال السلطة (وزير الشباب) الذي كان زميلا له في التدريس بجامعة القاهرة، وسرقة أبحاثه العلمية لصالح أحد زملائه في الجامعة سببا لاختيار حمدان الاعتزال بكلمته وفكره فأقام في صومعته (منزله) يمارس أبحاثه الفكرية ومنتجه الفكري حتى وفاته، وبقيت أفكار حمدان في الجغرافيا السياسية والفكر العربي والمصري، ولم ولن يذكر اسم الوزير الذي كان سببا في اعتزاله العالم.
تكررت تلك الحالة في بداية عام 1971 مع الإذاعي المصري الكبير جلال معوض الذي ارتبط بالتجربة الناصرية ولم يغادر مثل عديد من زملائه الإذاعيين الذين فصلهم أنور السادات من عملهم لارتباطهم بالتجربة الناصرية، وظل صوت جلال معوض محبوسا في منزله حتى وفاة أنور السادات.
الهروب من السادات
استقبل المصريون عهد أنور السادات باعتقالات مايو/أيار 1971 التي أطلق عليها اسم “ثورة التصحيح”، وبين السياسيين الذين سجنوا وحوكموا بتهمة قلب نظام الحكم واستمر حبسهم سنوات، وبين أصحاب الكلمة مكتوبة ومسموعة ومرئية الذين عزلوا من وطائفهم كانت البداية، وشهدنا خروج كل المقربين من التجربة الناصرية من الصحفيين، والمذيعين، وأصحاب الوظائف الفكرية والإبداعية ينقلون إلى وظائف في المحليات وشركات كعمر أفندي والجمعيات الاستهلاكية.
لم يكن أمام معظم معارضي أنور السادات إلا الهروب إلى الخارج فشهدت مصر لأول مرة في تاريخها خروج معارضين بكثافة إلى لندن والكويت والإمارات وسوريا وليبيا، وشهدت هذه البلدان إنتاجا إعلاميا معارضا للسياسات الساداتية، ومن هؤلاء أحمد بهاء الدين، ومحمود السعدني، والسيد الغضبان، ومحمد الخولي، وعبد الوهاب قتاية، ومحمد عروق، وعبد الغني قمر صاحب تجربة إذاعة صوت مصر من ليبيا، ومحمود نور الدين صاحب تجربة صوت يوليو الناصرية في لندن، أما الإعلامي الكبير جلال معوض فقد اعتزل في منزله وكأنه اختار منفاه.
وكما بدأ أنور السادات عصره بحبس معارضيه وسجنهم فقد انتهى عصره وغالبية النخبة المصرية في معتقلاته فيما عرف باعتقالات 5 سبتمبر/أيلول 1981 وهي حملة الاعتقالات التي لم ينج منها سياسي ولا مفكر من كل التيارات السياسية، الذين عارضوا توجهات السادات الاقتصادية أو السياسية متمثلة في اتفاقية السلام مع العدو الصهيوني، وقبل هذه النهاية شهدت مصر حبس واعتقال الكثير من معارضي أنور السادات منذ بداية تقلده السلطة وفي عامي 1971 و1972 اللذين شهدا مظاهرات سياسية في الجامعة وخارجها مطالبة بتحرير الأرض.
وتجمع العشاق في سجن القلعة بحسب تعبير الشاعر المصري زين العابدين فؤاد في قصيدته المعنونة بـ”اتجمعوا العشاق” وهو أحد الشعراء الذين عانوا كثيرا من سجون السادات ومنهم الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، خاصة بعد زيارة السادات للقدس وبدء السلام مع الكيان الصهيوني، كما شهدت أحداث يناير 1977 وانتفاضة الغضب المصرية اعتقال الآلاف من شباب مصر الذين اتهمهم السادات بمحاولة قلب نظام الحكم، ولا تُنسى في الفترة الساداتية أحداث يناير 1972 التي شهدت مظاهرات واسعة كانت تطالب بالحرب مع الكيان الصهيوني وتحرير الأرض، وهي المظاهرات التي احتل فيها الطلاب ميدان التحرير وكتب فيها الشاعر أمل دنقل قصيدته عن الأحداث بعنوان “الكعكة الحجرية” ويمكنك معرفة تفاصيلها في رواية بهاء طاهر “شرق النخيل”.
عهد مبارك البداية إفراج النهاية ثورة
بدأ حسني مبارك الرئيس الرابع لمصر بعد سقوط الملكية عصره بالإفراج عن معتقلي سبتمبر/أيلول في عهد السادات الذي انتهى في يوم الاحتفال بنصر أكتوبر المنسوب إليه برصاصات من داخل الجيش المصري، ولم يصمد نظام مبارك طويلا وشهد عام 1985 والعام الذي يليه أول مظاهرات في عصره كانت قمتها ما أطلق عليه اسم انتفاضة الأمن المركزي.
شهدت تلك الأحداث اعتقال الكثير ممن شاركوا في المظاهرات، واستمر الحال في حرب الخليج الأولى 1990 التي شهدت مقتل أول طالب من المتظاهرين ضد سياسات مبارك وهو كمال وقاد، واعتقل الكثير من طلاب جامعة القاهرة وقادة المظاهرات من القوى السياسية، ثم شهد العقد الأخير من عصر مبارك الكثير من المظاهرات والاعتقالات مع زيادة النشاط المعارض له.
وكان آخر الاعتقالات في عصر مبارك في يومي 26 و27 يناير/كانون الثاني 2011، ثم تنحى عن الحكم بعد أسبوعين من اعتقال الكثير من قادة الرأي والسياسيين، الذين توهم هو ومن حوله أن سجنهم واعتقالهم سوف يطيل حكمه، ولكن ترك مبارك الحكم ومن معه بكلمة مصرية خرجت من أفواه المصريين تقول “الشعب يريد إسقاط النظام” وتلك النهاية الدائمة للصراع بين الكلمة والسيف، الكلمة/ السلطة، الكلمة/ القهر، تنتصر في النهاية الكلمة وأصحابها وتبقى؛ فالكلمات لها أجنحة لا تحدها أسوار.
رصد العلاقة بين السلطة والمثقفين في كثير من الأعمال الفكرية والإبداعية ومحاولة اختزالها في مقال أو اثنين أمر صعب جدا؛ لما في تلك العلاقة من أحداث وشخصيات كثيرة، والصراع بين الكلمة والسيف السلطاني عابر للأزمنة والتاريخ لذا حاولت العبور فقط من أجل الوصول إلى نتيجة تؤكد أن الكلمة باقية مهما كان السجن والسجان.
الكثيرون ممن حاربوا الكلمة على مر الزمان سواء في أرض العرب التي عاش مفكروها ومبدعوها في السجون أو في الشتات والغربة، أو في عصور الظلام الأوروبية، كانت نهايتهم انزواء أسماء أصحاب السلطة، في حين بقي أصحاب الكلمة خالدين في التاريخ، من ابن خلدون إلى ابن رشد، إلى أرسطو، إلى تشيكوف.