لا إعمار أو مقاومة.. الهدنة تقترب في غزة والسلام يبتعد!

قبل أيام من تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب “دونالد ترامب” في العشرين من يناير/ كانون الثاني الجاري تتسارع الجهود للتوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة بين قوات الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، لكن بنود الهدنة تشير بوضوح إلى أنها حتى وإن اقتربت بفعل تهديدات “ترامب” -بأن عدم التوصل لاتفاق لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين قبل تنصيبه “سيفتح أبواب الجحيم على مصاريعها، في الشرق الأوسط ولن يكون الأمر جيدًا لحماس ولن يكون جيدًا بكل صراحة لأي أحد”- إلا أن الحديث عن السلام الحقيقي الذي يبحث عنه الفلسطينيون منذ عقود أصبح بعيد المنال، إذ يبدو بوضوح أن الولايات المتحدة -وهي الطرف المتحكم في توجيه دفة الصراع بالانخراط والدعم للاحتلال- عازمة خلال ولاية الرئاسية الجديدة على إدارة الصراع وليس البحث عن أسس موضوعية لإنهائه.
لا مقاومة؟
بالنسبة للغرب فإن حركتي حماس والجهاد اللتين تتصدران المشهد الفلسطيني، هما منظمتان إرهابيتان وليستا حركتي مقاومة. وهذا الأسبوع قرر المجلس الأوروبي تمديد التدابير التقليدية القائمة لمدة عام ضد من يتهمهم الغرب بدعم وتسهيل وتمويل أنشطة حركتي حماس والجهاد الإسلامية في فلسطين.
وأيا كان النقاش الفلسطيني حول دور حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في إعادة إشعال الصراع ووضعه في الواجهة وفي مقدمة الأجندة الدولية ونشرات الأخبار منذ اجتياح أفرادها السياج العازل الذي يحاصر قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأسر عشرات الإسرائيليين إلا أن تغلغل الحركة في طبقات المجتمع الفلسطيني في الضفة وغزة وفي الشتات يجعل من الصعب تجاهل الحركة ودورها في تقرير مصير الشعب الفلسطيني وقضيته، حتى وإن اعتقدت إسرائيل أن الحركة أصبحت بلا دور بعد اغتيالها الصف الأول من قادة الحركة التي نشأت في قطاع غزة عام 1987 من رحم جماعة “الإخوان المسلمون” كحركة مقاومة ذات خلفية إسلامية سنية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعندما يستسلم العالَم للتطرف
تصعيد غير مسبوق للمعارضة التركية.. لهذه الأسباب!
حرب الذكاء الاصطناعي
إن وجود الاحتلال مع الصمت الدولي على ما يرتكبه من جرائم وفظائع يطرح سؤالًا لا يستطيع الغرب الإجابة عنه، وهو إذا كنتم تعترفون بأن الأرض العربية محتلة فلماذا لا تعترفون بحق الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين في المقاومة؟ وهل المقاومة حق أوروبي فقط؟ مشروع أن تمارسه القارة العجوز عندما اجتاحها الاحتلال النازي بزعامة “أدولف هتلر” خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، لكنه حرام على الشعوب العربية.
إن عدم الاعتراف بالمقاومة وحق تقرير المصير دليل على أنه لا رغبة حقيقية في إنهاء الاحتلال، وأن الأصوات القليلة التي تنادي بعكس ذلك هي مجرد تنفيس عن الغضب دون انعكاس جاد في القرارات الدولية.
أين إعادة الإعمار؟
رغم الدمار الشامل الذي تعرض له قطاع غزة (360 كم مربع)، والذي طال أكثر من 70% من مساكن غزة التي تم تدميرها كليًا أو جزئيًا، إلى جانب المستشفيات والمرافق والمصانع والورش والشركات، وفق تقديرات منظمة الأمم المتحدة، إلا أن الحديث غائب عن إعادة إعمار غزة منذ شهور رغم ازدياد المأساة وتفاقم الكوارث في القطاع المنكوب.
وإذا استخدمنا محرك البحث (غوغل) باللغتين العربية والإنجليزية لمراجعة تناول الإعلام لمسألة إعادة الإعمار فسنجد أن الحديث شبه غائب، وأن الطرح تم على استحياء في شهري مايو/ أيار، وسبتمبر/ أيلول من العام الماضي مع تناول قليل خلالهما وبصورة نادرة بعد ذلك.
في شهر مايو/أيار الماضي قدرت منظمة الأمم المتحدة تكلفة إعادة إعمار قطاع غزة بنحو 40 مليار دولار، وأكدت أن التعافي من الدمار الهائل وغير المسبوق الذي لحق بالقطاع بسبب العدوان الإسرائيلي الممتد قد يستغرق 80 عامًا.
وفي شهر سبتمبر/أيلول الماضي كشفت دراسة لمؤسسة “راند” (RAND) البحثية الأمريكية أن تكلفة إعادة إعمار غزة تتجاوز ثمانين مليار دولار.
وقدرت الدراسة أن الحرب خلّفت 42 مليون طن من الأنقاض، وهو ما يحتاج لملء ما يزيد على 1.3 مليون شاحنة، وأن تكلفة إزالة الركام تتجاوز 700 مليون دولار، في عملية معقدة قد تستغرق عدة سنوات بسبب وجود مخلفات الحرب التي لم تنفجر ومخاطر المواد الملوثة وجثث المفقودين تحت الأنقاض.
وتظهر تقديرات منظمة العمل الدولية أن 25% ممن استشهدوا في غزة كانوا من الرجال في سن العمل، مما يعني فقد آلاف الأسر الفلسطينية لعائليها. وإذا أضفنا من 10 إلى 15% أخرى على الأقل ممن غادروا القطاع، فإن المحصلة أن قوة العمل انخفضت بما يقترب من 40٪ عما كانت عليه قبل العدوان على غزة، وهو رقم يحتاج لتعامل خاص إذا بدأ الإعمار من قبيل استيراد عمالة من مصر وشمال إفريقيا والسودان أو من الضفة الغربية والأردن وسوريا تحت شروط معينة.
وليس هناك تصور حول تفاصيل إعادة الإعمار، والتخلص من الركام وإدخال مواد البناء وإعادة تخطيط المناطق المدمرة، بما يؤكد أن فتح الملف بجدية هو أمر بعيد المنال.
أين السلطة؟
ليس من الواضح ما الذي سينتهي إليه أمر القطاع الذي كان يحكم بواسطة كوادر “حماس” منذ توليها الحكم في 2007 بعد إزاحة السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس (أبو مازن). وبينما ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن السلطة الفلسطينية يجب أن تكون جزءا من أي حكومة مستقبلية في غزة، مع دعوات متكررة لما تصفه واشنطن بإصلاح السلطة، إلا أن الحكومة الإسرائيلية ترغب -دون تفاصيل أو اقتراحات محددة- في مشاركة الدول العربية في أي تدابير تخص غزة فيما بعد الحرب، وترفض حتى الآن الموافقة على أي خطة لما بعد الحرب تتضمن مشاركة السلطة الفلسطينية، حتى وهي تتفاوض عبر وسطاء مع ممثلي حركة “حماس” الفصيل الأكبر في المقاومة والمسيطر الفعلي على قطاع غزة.
وبينما تتردد اقتراحات حول تمكين بعض العشائر وكبار العائلات من تشكيل إدارة مدنية في القطاع بعد الحرب أو من قيادات فلسطينية من أبناء غزة مثل محمد دحلان، إلا أن الأمر لم يتجاوز التصريحات الصحفية عبر وسائل الإعلام دون اتفاق على آليات عملية للتنفيذ.
وكشف وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن قبل أيام من انتهاء عمل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عما وصفها بخطة اليوم التالي في غزة، لكن بعض مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية أعربوا عن قلقهم من أن الخطة ستخدم مصالح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وتهمش السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس.
وسواء كانت سلطة أبو مازن وحدها أو بمشاركة دول عربية وفق “خطة بلينكن”، فإن السلطة القادمة في غزة بلا ملامح حقيقية مما يطرح تساؤلات صعبة حول مستقبل منطقة ذات كثافة سكانية عالية وأوضاع معيشية مستحيلة وبلا مقومات، وعما إذا كان مطلوب من جميع الأطراف أن تتآمر أو تتكاتف لبقاء الوضع الضبابي في منطقة لم تعد صالحة بوضعها الحالي للحياة الإنسانية أو الكريمة.
الهدنة مؤقتة
القراءة المتأنية للتسريبات المتداولة في الإعلام حول ملامح اتفاق الهدنة تشي بوضوح أن الهدف الرئيسي هو إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين في غزة مقابل أعداد من المعتقلين الفلسطينين في سجون الاحتلال، وأن أي شيء يمكن حدوثه لاحقًا بما في ذلك عودة الحرب والتدمير والاحتلال، فالحديث عن الإعمار في تسريبات الهدنة غامض وبلا تفاصيل ويكاد يكون ذرًا للرماد في العيون، ويبدو أن المجتمع الدولي يريد أن تكون غزة منطقة هادئة بلا مقاومة وأن لا تكلف المجتمع الدولي والدول الغربية أموالًا كثيرة للإعمار، وهو ما يقودنا إلى نتيجة مفادها أن السلام يبتعد بقدر ما تقترب الهدنة.