أولوية إعمار غزة على الحج والعمرة هذا العام

نازحون في قطاع غزة
(الأناضول)

بعد إقرار الهدنة في غزة، ووقف الحرب فيها، وفق شروط واتفاقات، ووجود من يقوم على تنفيذها، سيكون من ضمن ما تتجه إليه الجهود: إعادة إعمار غزة، التي لم يبق فيها حجر على حجر كما كان، فما بين متهدم تماما، ومتصدع، ومهدد بالسقوط، بحكم كم القنابل والمتفجرات التي ألقيت على مباني غزة وأراضيها، ولا شك أن ما تم خرابه من غزة يحتاج لجهد كبير، لا يغفل منه دور الأمة الإسلامية.

ولا يرتهن ملف الإعمار هنا بالحجر دون الحديث عن إعادة تأهيل البشر، فكم اليتامى والأرامل، وكم المصابين من ذوي الإعاقات خاصة للشباب والأطفال مهول وكبير، يحتاج لجهود كبيرة، سواء على المستوى البشري أو المادي، والمادي هنا مهم جدا، ومهما كانت وعود الدول الكبرى بالمساعدة والإعمار، فإنها تظل قاصرة سواء من حيث الكم أو الكيف، وقد جربت غزة في حروب أقل ضررا من حربها الأخيرة أن التعاون في هذا الملف لم يكن كما ينبغي، ولا يسد الحاجة المطلوبة.

نقاش مع فهمي هويدي:

وأذكر في بداية الحرب على غزة، أن أستاذنا الكاتب الكبير فهمي هويدي، فتح الموضوع معي، من حيث التأصيل والدعوة للتبرع في هذا العام بأموال الحج والعمرة، لصالح إعمار غزة، وقد سبق أن تبنى هذه الدعوة وقت أزمة البوسنة والهرسك، وكتب وقتها شيخنا القرضاوي -رحمه الله- يؤيد ذلك من سبق له الحج، دون من لم يحج الفريضة.

والحقيقة أن الأمر فيه سعة في التفكير في المسألة، فمما فيه سعة في الأمر بلا إشكال، في قضية تكرار الحج والعمرة، فإن الفريضة قد سقطت، وهنا تعدّ أولوية إنقاذ النفوس، وإعمار البيوت والمجتمعات المسلمة مهمة، وهو ما أصّل إليه كثيرا المشايخ من ذوي الاهتمام بقضايا الشأن العام، وفي تراثنا الفقهي ما يدعم ذلك بقوة، وكان على رأس هؤلاء أبو حامد الغزالي -رحمه الله-، ومن المعاصرين الشيخ القرضاوي، كما بيّن في كتابه: (في فقه الأولويات).

والحج فريضة مرهونة بشروط وأهمها الاستطاعة، سواء كانت الاستطاعة مالية أم بدنية، أم تنظيمية إدارية، فما يتعلق بالمال والبدن مرهون بالشخص نفسه وظروفه المادية والصحية، أما الأمور التنظيمية والإدارية فمرهونة بالدولة التي تنظم الحج والعمرة، فقد تتوافر الشروط المتعلقة بالشخص، ولا يعطى “الفيزا” للحج أو العمرة، أو لأسباب أخرى سياسية.

فريضة تقبل التأخير عند نية الحج:

ومع توافر شروط فرضية الحج في الشخص أو الدولة المنظمة، فقد اختلف الفقهاء في الحج عند توافر هذه الشروط، هل هو على الفور أم على التراخي؟ هل يجب مباشرة بعد توافر الشروط، أم له أن يؤخر لأعوام أخرى، ما دام على نية الحج وأدائه، وليس تهربا من أدائها، باعتبار أنه وقت موسع، كما في مواقيت الصلاة، فهناك وقت اختيار، وهناك وقت اضطرار، وهناك وقت قضاء مع إثم التأخير، وكذلك الحج اختلفوا في شأنه، فذهب فريق من الفقهاء بأنه على التراخي، إذ إن الشخص لو أجله لعام، ثم ذهب لأدائه لا يعدّ حجه قضاء، بل أداء، مما دل على أنه يقبل التأخير.

وبناء على ذلك فلدينا واجب عاجل، وواجب يقبل التأخير على المذهب القائل بالتراخي في الحج، فالواجب العاجل الآني هو إعمار غزة، لأن كسرها ومحوها هدف العدو الصهيوني، وهو هدف مقصود به كسر إرادة الأمة كذلك، بعد أن أصبحت رمزا للصمود والنضال والثبات، فزاد ذلك من تعجيل إعمارها والوقوف مع أهلها.

وعند تعارض الواجبات، يضاف أيضا مرجح آخر، وهو: العمل القاصر والعمل المتعدي، فالحج عبادة فردية مفروضة، لكنها قاصرة على الفرد، لكن الإعمار هنا واجب آني عاجل وعمل متعدٍ يعود بنفعه على كثير من أبناء الأمة، وليس أهل غزة فقط، نعم نعلم أن الحج فريضة فردية، وإعمار غزة فريضة جماعية، الأمة كلها مكلفة بها، لكنها لا تقوم بها، وأنها فرض كفاية، لكن الخلاف بين الأصوليين في أيهما أولى بالتقديم: الفروض العينية أم الكفائية؟ خلاف معروف، وأحيانا يترجح الكفائي حسب حالته، وما نراه في حالة غزة وإعمارها يدخل في هذه الحالة.

الأمة بديلا عن الأنظمة المتخاذلة:

كما أنه عندما تخذل السلطات والحكام الأمة في قضاياها، عندئذ تقوم الأمة مقامها، وتسد عجزها، أو تقصيرها، أو خيانتها، فعندما تفشل الجيوش النظامية في الدفاع عن المقدسات أو الأرض، عندئذ تقوم الجيوش الشعبية مقامها، وهو أمر مشهود به طوال تاريخ الأمة، ولاحظه مؤرخون غربيون عن مؤسسات المجتمع الإسلامي، فالأمة هنا تقوم بدورها ومهمتها، وهو دور ينتظره دوما أهل المقاومة منها، سواء كان ماليا أم معنويا، والدور هنا مادي وقد جربت الأمة أن الأنظمة قلما تساعد في هذه القضايا، أو تعد وتفي بوعودها إلا من رحم ربك وقليل ما هم.

أما مسألة الخوف من تعطيل المشاعر، فهو أمر موهوم، فإن إعمار المقدسات بالحج والعمرة يقوم به حجيج وعمار الداخل ويكفون، بل يتشوقون لذلك، حيث إن الترتيب والتنظيم يمنعهم من هذا الأمر لسنوات طويلة، من باب إفساح المجال أكبر لحجيج الخارج، فيكفي هذا العام حجيج الداخل وهم كثر جدا والحمد لله، ولا يتكلفون مالا، بل بأقل القليل يكفي، حيث إنه يمثل رحلة داخلية لمن يقوم بها.

هل هذا رأي مسيس؟

وأما عن دعوى تسيس مثل هذا الرأي، فهو كلام فارغ، لأن الإجراء ذاته، قد تم منذ عامين أو أكثر قليلا، حين جاءت جائحة كورونا، ومنعت ذهاب الناس للحجيج بعدد كبير، فتم الاكتفاء بحج أهل الداخل، فإذا أصابت الأمة جائحة صحية تم هذا الفعل، فالأولى بنا فعل ذلك مع عدوان استئصالي كالكيان الصهيوني مع أهل غزة وفلسطين.

وقد أفتى الإمام الجويني نظام الملك في زمانه، أنه يمنع عن الحج، لعدم توافر الأمان له، فوضع قاعدة مهمة في الأمر حيث قال: (وقد أجمع المسلمون قاطبة: على أن من غلب على الظن إفضاء خروجه إلى الحج إلى تعرضه أو تعرض طوائف من المسلمين للغرر والخطر، لم يجز له أن يغرر بنفسه وبذويه، ومن يتصل به ويليه، بل يتعين عليه تأخير ما ينتحيه، إلى أن يتحقق تمام الاستمكان)، فإذا تمت الفتوى للحفاظ على أمان مسؤول أو حاكم، أو طائفة من المسلمين، فإن بقاء فئة صامدة من الأمة وحفظها أولى أيضا وأهم.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان