محاولة لفهم العلاقة بين بشار الأسد وشبيحته
قراءة في صور بشار في طفولته

في استعراض لصور بشار الأسد في طفولته يُلاحظ أنه لم يكن مقرّبًا من أبيه. كان حافظ الأسد يعتني بباسل، ويعلمه قيادة الدراجة وبشار يقف بعيدًا يراقب أباه وباسل.
معظم الصور يبدو فيها باسل ملاصقًا لأبيه بينما بشار على يمين الصورة قرب أمّه وشقيقته، أو يقف بعيدًا في زاوية الصورة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsإعادة تدوير القول الغربي!
لماذا سفير لأمريكا في إسرائيل؟!
نادر فرجاني.. تذكر مستحق في أربعينيته
تبدو هذه الصور مُؤسِسة لحياة بشار فيما بعد، إرساله إلى لندن بحجة الدراسة، والثابت أنه لم يكن يدرس الطب هناك كما أشيع، بل كان يتلقّى علاجًا في أحد المنتجعات الصحية حتى تاريخ عودته بعد مقتل أخيه.
وبحسب نظرية “التعلق” لجون بولبي، المحلل النفسي البريطاني فإن بشار الأسد لم ينل في طفولته الرعاية الكاملة من أبويه، أهمله والده، وكانت أمّه عنيفة وصارمة في تربيتها له، ممّا جعل نموه العاطفي والاجتماعي لا يسير بشكل طبيعي.
نظرية التعلق تقوم على ارتباط نفسي وعاطفي دائم بين الأفراد، ووجود خلل في هذا الارتباط يؤثر في سلوك الفرد طوال حياته، وقد ينعكس هذا السلوك على طبيعة التركيبة النفسية والجسدية عند الإنسان بعد تجاوز سن الطفولة.
وفي حال الرئيس المخلوع، لم يشعر بالأمان والاستقرار اللذين توفرا لشقيقه المحاط برعاية وحب غير مشروطين، ممّا أكسبه ثقة مطلقة بقدراته جعلته يبني مستقبله بوضوح، لولا حكمة القدر التي نفذت فيه على غفلة منه ومن أبيه، والشائع أنها لم تكن قضاءً وقدرًا، بل عملية اغتيال مدبرة ظلت غامضة ومثيرة للشكّ والتساؤلات طيلة ثلاثة عقود.
تلك الضرورة البيولوجية والعاطفية المفقودة عند بشار الأسد جعلته مهزوزًا فاقدًا للثقة بالعالم، ومتعطشًا لها. حاول تعويض كل ما فقده حين وجد نفسه رئيسًا، وكان التعويض بإثبات براعته اللغوية في خطاباته التي لم تخرج عن شرح المشروح، وتكرار المكرّر، والفذلكة اللغوية التي لا طعم لها.
هذه الفذلكة التي انتقلت إلى مؤيديه المبهورين بثقافته وبراعته في الكلام، خاصة سهيل الحسن الملقب بالنمر الوردي، الذي كان المبعوث الخاص والرسمي من قبل الأسد -مع ضباط آخرين- لتشكيل نواة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الرقة. لم ينسَ السوريون نظرية “العالم” للنمر، وتعريفه لمفهوم الوطن. لقد حاول تقليد الرئيس وتقمص شخصيته حين يظهر إعلاميًا، لكنه فشل فشلًا ذريعًا.
الأسد أو نحرق البلد
وصل شبيحة الأسد إلى مرحلة من النكوص النفسي ألغوا فيها ذواتهم وعقولهم، وأصبحوا مبرمجين على فعل القتل والتعذيب والتدمير دون شعور بسيط بأنهم يرتكبون جرائم شنيعة، تراهم مدفوعين بعقيدة باطنية تجعل من القتل عبادة وتقربًا إلى ربهم. بغض النظر عن الجنود المجبورين على استخدام السلاح ضدّ المدنيين، بقية الشبيحة، والمتنفذين، والعاملين في أفرع المخابرات -أيًّا كانت رتبتهم ونوع عملهم- هؤلاء كلهم كانوا يعيشون انفصامًا تامًا بين ما يقومون به من مجازر وبين حياتهم العادية اليومية مع أسرهم وأقاربهم وطوائفهم، وقد لا ينجو هؤلاء الأقارب، أو أبناء الطائفة من بين أيديهم إن كانوا يحملون في أنفسهم شكّا في القيادة، أو رأيًا مخالفًا حول ما يجري في البلاد.
وعلى الرغم من أن بشار الأسد لم يتمتع بشخصية قوية موحية بالأمان لهؤلاء، ولا يتمتع بـ”كاريزما” مثل عبد الناصر، إلا أن شبيحته وجدوا فيه البديل الرمزي لمقدمي الرعاية الذين تناولهم بولبي في نظريته.
الحرب التي أعلنها بشار الأسد ضدّ شعبه كانت سببًا في زيادة التعلّق بشخصية القائد الافتراضية، أو الوهمية التي رسمتها عقولهم القاصرة عن التفرد والتفكير المنطقي. يشبه ذلك التعلّق تعلّق النازيين بشخصية هتلر.
من المفهوم -حسب النظرية- تعلّق الشعب بشخصية الحاكم القوي الذي يمنحهم الشعور بالأمان، وهذا ما جعل الشعب المصري ينزل إلى الشارع مطالبًا عبد الناصر بالعودة عن قرار تنحيه عن الرئاسة بعد نكسة حزيران 1967، فقد كان وجوده يمنح الشعب “المتعلّق به” الأمان، ولم يكن أحد يجد بديلًا له، تمامًا كما كان مؤيدو الأسد وشبيحته لا يرون له بديلًا، وكانوا يتساءلون دائما “من أين سيأتون بالبديل؟”.
سؤال منطقي ومحق من وجهة نظر أناس عاشوا تحت ظلّ الحماية المفترضة أكثر من خمسين عامًا. مما جعلهم يرفعون شعار “الأسد أو نحرق البلد” منذ بداية الثورة، وفعلًا أحرقوا البلد، ودمّروها لأجل عينيّ قائدهم المزعوم.
فقدان الأمان
فجأة رأوا أنفسهم في الخلاء، صحراء واسعة وسراب لا يؤدي إلى ماء. فقدوا أمانهم، ومصدر قوتهم المتمثل بالفأر الهارب. فجأة رأوا الحقيقة وكأنها صعقة كهرباء مفاجئة، ومع شعور الخذلان التام كانت ردّة الفعل غريبة جدًا، فقد انقسم هؤلاء إلى قسمين:
قسم بحث عن البديل بشكل مباشر، وطفت على السطح ظاهرة معروفة وقديمة لكن السوريين أعطوها اسمًا جديدًا “تكويع”، ولا يلزم المُكوّع سوى تغيير مساره، بإعلانه أنه كان “مجبرًا، ومضحوك عليه، ولم يعلم بما يجري”.
كانوا منفصلين تمامًا عن الواقع، وبعضهم ذهب إلى أبعد من إعلان ردته عن تأييد الأسد، ومدح الإدارة الجديدة متمثلة بالتغزل بقائدها “الشرع”، وتأليف أغنية له كما كانوا في عهد بشار ووالده، فهم -على قدّ فهمهم للسياسة والحياة- يظنون أن كل شيء سيمرّ بسهولة ومن دون مشاكل بمجرد إعلانهم تأييد من تزوج أمّهم. لكن السوريين الأحرار ينتظرون تقويم الأمور من الإدارة الجديدة بأن “تُكوِّع” هؤلاء بحدّ السيف حتى تعوّج أكواعهم.
أمّا القسم الثاني، فكانت ردّة فعلهم انتقامية، يحدوهم الأمل أو الوهم بوصول إشارة خارجية كي يعاودوا الحرب من جديد، احتفظوا بأسلحتهم، وتمترسوا في أماكن محمية يستطيعون من خلالها اصطياد المجاهدين، وقتلهم في كمائن، كما حاول مشايخهم طلب العفو العام عن جرائمهم، وبلهجة فوقية اعتادوا عليها طيلة عقود حكمهم.