ثمن الطوفان.. هل انتصرت إسرائيل؟

هل كانت عملية طوفان الأقصى تستحق أن يسدد الفلسطينيون هذا الثمن الفادح؟
ما إن طيَّرت وكالات الأنباء العالمية التسريبات الأولية من الدوحة، بشأن التوصل إلى هدنة في غزة، أو قُل تحريًا للدقة؛ وقف حرب الإبادة الإسرائيلية على سكان القطاع، حتى تكالب المحللون العالمون ببواطن الأمور، الذين “جابوا الذئب من ذيله”، على الفضائيات العربية الناطقة بلسان عواصم التطبيع، على طرح السؤال والتبرع بالإجابة عليه أيضًا.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعندما يستسلم العالَم للتطرف
تصعيد غير مسبوق للمعارضة التركية.. لهذه الأسباب!
حرب الذكاء الاصطناعي
في صيغة السؤال المراوغة، تبدو توجهات وانحيازات السائلين، وتزكم الأنوف روائح الأوامر “العليا” الصادرة من قصور القامعين الباطشين، ممن غضوا الطرف عن المأساة الفلسطينية، وامتنعوا عن تقديم شربة الماء وكسرة الخبز وحبة الدواء، إلى أهالي غزة المحاصرين تحت دوي القصف البربري.
وفي الإجابات، أوغل الجهابذة الفلاسفة في تأثيم المقاومة بذريعة أنها استفزت الوحش الإسرائيلي، المتفوق عسكريًّا وتكنولوجيًّا، والمدعوم من القوة العظمى الولايات المتحدة، فإذا بأبواب الجحيم تنفتح على مصاريعها، على الغزيين الأبرياء الذين لم يستشرهم قادة حماس في “مغامرة الطوفان” غير المحسوبة.
دع عنك هزلية هذا الكلام، إذ ليس معقولًا أن تطرح حركة حماس استطلاع رأي شعبيًّا مثلًا، قبيل عملية عسكرية ينبغي أن تباغت العدو، فهذه مقولات لا تستدعي الالتفات إليها، والأهم منها قطعًا هو سؤال الخسائر والأرباح.
المؤكد أن ثمن الطوفان فادح وموجع، فاقتراب عدد الشهداء من نحو 50 ألفًا، فضلًا عن أكثر من 100 ألف جريح، وتدمير ما يزيد على 80% من البنية التحتية لقطاع غزة، ليس بالأمر الهيّن اليسير، بل إن المأساة في عمقها تبدو أكثر فظاظة وغلظة من الأرقام والإحصاءات الجامدة.
ملامح المأساة والملحمة
وراء كل شهيد، ثمة “تراجيديا” كتبها الدم المراق، ووراء كل بيت تبعثر ركامًا، هناك شيوخ مشرَّدون وهن العظم منهم، وأمهات ثكالى لن تجف دموعهن أبدًا، وأطفال يُتموا، وزمهرير سحق العظام، في خيام أغرقتها الأمطار، وجوع نهش الأمعاء، وأفواه سدت رمقها بخَبز “شعير البهائم”، وليل ثقيل لا صوت فيه، إلا لصرخات الجرحى، ودوي القنابل المحرمة دوليًّا، وأزيز الطائرات المقاتلة الأمريكية.
لكن ما الثمن على الجهة الأخرى؟ وماذا عن مكتسبات الطوفان للفلسطينيين؟ سؤالان يتحاشاهما القوم مع سبق الإصرار وتبييت النية.
يقال إن الحقيقة تتغير باختلاف زوايا النظر، وفي ذلك يقول إيليا أبو ماضي “لمّا سألتُ عن الحقيقةِ قيلَ لي/ الحقُّ ما اتفق السوادُ عليه.. فعجبتُ كيف نحرتُ ثوري في الضحى/ والهندُ ساجدةٌ هناكَ عليه”.
هكذا تغدو الحقيقة عند نظام عربي مطبّع، أو لدى إعلامي ومحلل أو خبير استراتيجي من حمَلة الدفوف والمباخر، ليست هي الحقيقة من منظور مقاتل تورمت عروق يديه، وهو يحفر الأنفاق شبرًا بعد شبر، انتظارًا للحظة قصاص من جلاده.
بالنسبة لمن هرولوا زرافات ووحدانًا إلى تل أبيب، فتمرغوا في دنس ما سمّوه السلام الدافئ، أو خيار السلام الاستراتيجي، وما إلى ذلك من المصطلحات اللزجة المتنطعة، فإن المقاومة تلقت هزيمة نكراء، ولن تقوم لها قائمة لعقود، أما بالنسبة لمقاتل قسّامي انخرط في عمل عسكري فذ ومخطَّط له بكفاءة منقطعة النظير، فالحقيقة مغايرة كليًّا، وتتمثل في إمكانية هزيمة العدو، ولو هزائم محدودة ومرحلية، انتظارًا للحظة آتية لا ريب.
تروي الحكاية المأثورة أن شيخًا كان يضرب صخرة بفأسه مرة تلو أخرى، من دون أن تتكسر، حتى إذا ما انهال عليها بضربته المئة، تفتتت إلى شظايا متناثرة.
حين هاجمت المقاومة العدو الإسرائيلي في العمق، برًّا وبحرًا وجوًّا، يوم السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023، هوت بفأسها على الصخرة الصهيونية، فأثبتت لنفسها أولًا وللعدو ثانيًا أنه “يُقهر”.
هذه الحقيقة ستبقى حلمًا يراود المقاومة، وستبقى كابوسًا يدمر أعصاب الاحتلال.
جدليات التاريخ تستخلص العبرة من ثنائيات “الاحتلال والمقاومة” على مر العصور، إن الاحتلال -أي احتلال- ليس محصَّنًا ضد الهزيمة.
لا حاجة إلى شواهد من هنا أو هناك، فالملحمة الفلسطينية “مكتفية بذاتها”، وفلسطين تفعل ما يليق بإبائها منذ الثورة الكبرى عام 1936 ضد الإنجليز اعتراضًا على تسهيلهم الهجرة اليهودية، مرورًا بالهبّات والانتفاضات المتتالية، وصولًا إلى طوفان الأقصى؛ ذروة التصاعد وليست بالقطع نهايته.
مقولات وراءها “أحلام عصافير”
ما يردده أبواق التطبيع إذَن، من أن عملية طوفان الأقصى أفضت في الخاتمة إلى سحق المقاومة، ودمرت غزة التي كانت فردوسًا على الأرض، وليست تحت حصار الاحتلال، وكتبت الفصل الأخير في مسيرة حركة حماس، ليس أكثر من “أحلام عصافير”، فالمقاومة قد تفقد شيئًا من قواها، لكنها لن تسقط، ما دامت المعادلة هي هي؛ احتلال إبادي عنصري متطرف، وأصحاب أرض لا يرفعون الراية البيضاء.
في مذكرات السياسي الفلسطيني المخضرم فاروق القدومي عن الانتفاضة الأولى، كتب “شبَّت الانتفاضة فجأة، وجبهة المقاومة الداخلية مفككة وضعيفة للغاية، لكنها استطاعت تحفيز الشعب الفلسطيني واستنفاره وحشده”.
إن القوة والضعف مفهومان غاية في النسبية، في أي صراع تاريخي بين الحق والباطل.
حتى لو صحَّت المقولات عن انهيار حماس -وهذه فرضية غير دقيقة- فإن ذلك لن يحول دون انبثاق فصيل آخر، يمتشق حسام التصدي، ولا ننسى أن الحركة وُلدت إبّان الانتفاضة الأولى، بالتزامن مع الضعف الذي أصاب حركة فتح، إثر خروج منظمة التحرير من بيروت، وهو الضعف الذي أفضى أخيرًا إلى تلقيها رصاصة الرحمة في اتفاقية أوسلو.
وفي كتاب (الخيار) يقرر محمد حسنين هيكل “الاحتلال يعتقد أن بوسعه تدمير المقاومة، لكنه يجهل أن المقاومة جزء من الهوية الفلسطينية”، في حين يختزل الشيخ أحمد ياسين المسألة “يظن الاحتلال أن باستطاعة آلته العسكرية هزيمة المقاومة، لكنه في الحقيقة يعزّزها”.
ما اجترحه الفلسطينيون من بطولات أسطورية، يوم السابع من أكتوبر، ليس استثناءً في مسيرتهم النضالية، وصمودهم أمام الحرب الإسرائيلية الأمريكية -وللأسف- العربية، لمدة 15 شهرًا، وإحباطهم مخططات التهجير، يؤكد أنهم سيواصلون ضرب الصخرة بفؤوسهم المثابرة، حتى تتفتت إلى شظايا.
وإلى ذلك الحين، فإن التأويل الوحيد المتاح والمستساغ منطقيًّا لعملية الطوفان، يتمثل في أن الفلسطينيين قاوموا بمنتهى الصلابة والفداء، ولم ينهزموا، وأن الإسرائيليين ارتكبوا جرائم الحرب بمنتهى الخسة والبربرية، ولم ينتصروا.
في حلقة تالية من حلقات النضال، ستنجلي الصورة أكثر، وسيتسنى تقييم نتائج طوفان الأقصى، وهي حلقة آتية لا ريب، وإن كان مستحيلًا التنبؤ بموعدها.