في غزة قادة حرب ورجال تفاوض

رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" الشهيد يحيى السنوار
غاب السنوار وقادة من الصف الأول من حركة حماس، لكن الصف الثاني أثبت قدرته على القيادة (غيتي)

أخيرا دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) حيز التنفيذ لمرحلته الأولى الممتدة 42 يوما يتم خلالها الاتفاق على ملامح المرحلة الثانية، وتصل إلى خمس مراحل تتوقف معها الحرب على غزة التي استمرت 469 يوما.

رغم إعلان الاتفاق قبل ثلاثة أيام من البدء بتنفيذه فإن القصف الصهيوني لم يتوقف على غزة، وشهد اليوم الأول لإعلانه نحو 80 شهيدا، ثم استمر حتى موعد التنفيذ الثانية عشرة من ظهر اليوم، ويبدأ في الرابعة عصرا تبادل الأسرى الذي يتم بموجبه الإفراج عن 1737 أسيرا فلسطينيا منهم نحو 300 محكوم عليهم بالمؤبد، ويبلغ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال 7000 أسير.

كان أهم ما سبق الإعلان عن الاتفاق هو ما أعلنه رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو عن موافقته على الاتفاق وانتظاره والوسطاء من قطر والولايات المتحدة ومصر قرار حركة المقاومة الإسلامية وموافقتها على ما توصل إليه الوسطاء والوفود، وهو إعلان لفرض حماس شروطها على الاتفاق، وقد سبق ذلك ما تردد في كواليس الاتفاق وفي صحف عبرية عن صعوبة الاتفاق مع المقاومة الفلسطينية وقيادة حماس، وما قيل عن التدقيق في كل بند ونقطة من بنود الاتفاق من جانب قادة الحركة، ووصفت بعض الصحف العبرية التفاوض مع محمد السنوار شقيق الشهيد القائد يحيى السنوار (أبو إبراهيم) بأنها أصعب من التفاوض مع السنوار نفسه لو كان حيّا.

جيل وراء جيل

هذه الإشارة إلى فريق التفاوض في المقاومة الفلسطينية ومدى تمسُّكهم بالتدقيق في كل بنود الاتفاق تعكس قوة وقدرة هؤلاء القادة الذين تولوا أمر الحركة بعد استشهاد قادتها التاريخيين: إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة، وصالح العاروري نائب الرئيس، ثم يحيى السنوار قائد الحركة في غزة.

لقد أثبت هؤلاء القادة من الصف الثاني لقيادة الحركة كفاءتهم وقدرتهم على المقاومة والنضال كمحاربين أشداء بعد رحيل عدد من الصف الأول بقيادتهم المقاومة في الميادين حتى أن الجميع لم يشعر بفقدان واستشهاد القادة، وظلت المقاومة في غزة تكبد العدو خسائر كبيرة في العتاد والقتلى حتى قبل توقيع الاتفاق بساعات، وشهد فيه شمال غزة وخاصة جباليا مقاومة صلدة، وقُتل 27 من جنود الكيان خلال ساعات، بل وخرجت من الشمال المدمر تماما صواريخ إلى مستوطنات غلاف غزة.

مثلما استطاع قادة الحركة في غياب الكبار الصمود في الميدان، مما جعل الكيان الصهيوني ومن يدعمه من الولايات المتحدة والغرب الأوروبي يفشلون في تحقيق أهدافهم، استطاعوا ومفاوضوهم الوصول إلى هذا الاتفاق الذي وُصف في وسائل الإعلام الصهيونية بأنه استسلام وهزيمة للكيان، ولعلنا جميعا نستمتع بصراخ اليمين الصهيوني بقيادة بن غفير وسموتريتش عن الاتفاق المذل لإسرائيل، وقد صوَّت منهم 8 أعضاء في الحكومة الصهيونية ضد الاتفاق، لقد استطاعت المقاومة الفلسطينية وقادة حماس أن يُفشلوا كل أهداف الكيان الصهيوني التي أعلنها يوم الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

كانت نتيجة حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل بشركائها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية فشل كل أهداف نتنياهو، وها هو يتفاوض ويوقع اتفاقا مع حماس التي قال إنها لن تكون موجودة في اليوم الثاني لانتهاء الحرب، بل كان ينتظر ردها وموافقتها على الاتفاق، وها هو ينتظر حماس للإفراج عن الأسرى والرهائن لديها وهو الذي وعد بتحريرهم جميعا. وقريبا يعود سكان الشمال في غزة إلى بيوتهم بعد أن فشلت خطة الجنرالات التي استخدمها في الأشهر الثلاثة الماضية، أي أن حرب الإبادة الشاملة التي خاضها الكيان خلال خمسة عشر شهرا لم تحقق أي هدف من أهدافها في غياب قادة كبار من حماس، في التخطيط العسكري يحيى السنوار، وفي التفاوض السياسي إسماعيل هنية وصالح العاروري.

بناء الحركة

هذا الفراغ الكبير الذي استطاع قادة حركة المقاومة الإسلامية سده بعد غياب قادتهم يعكس رؤية هؤلاء الكبار في بناء الحركة نفسها، وهذا ما تأكد على مدار تاريخها منذ نشأتها في ديسمبر/كانون الأول 1987 حتى الآن، لقد فقدت الحركة قادة كبارا طوال هذه السنوات، ولعل استشهاد مؤسسها والأب الروحي لها الشيخ أحمد ياسين في عام 2004، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي قائد الحركة في غزة في العام ذاته، وفي شهرين متتاليين كانت ضربة قوية ظن بعدها الكثيرون أن الحركة ستنتهي.

لكن استمرت الحركة، وأنجبت قادة كبارا آخرين تولوا قيادتها، واستمروا في المقاومة حتى جاء طوفان الأقصى الذي قاده الشهيد يحيى السنوار، واستشهد الكثير من القادة والمقاومة، وطال رصاص الكيان الصهيوني قادة الصف الأول وعلى رأسهم هنية والسنوار والعاروري، ولم تفقد الحركة قوتها ولا صلابة المقاومة في حرب كانت الأطول والأقوى خلال معارك الكيان مع الدول العربية، وحركات المقاومة.

إن شخصيات بحجم وقوة و”كاريزما” السنوار وهنية عندما تغيب عن حركة مقاومة مثل حماس، أو أحزاب كبيرة في الدول، أو حتى عندما يغيب رئيس جمهورية بحجم هؤلاء، تتعرض هذه الكيانات لهزة عنيفة، بل قد تفقد هذه الكيانات توازنها لفترات كبيرة ولا تعود مثلما كانت، ولنا في تجارب رؤساء عرب أمثلة كثيرة، كان أبرزها غياب الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وأصبحت دولة بحجم مصر وتاريخها في مكان آخر غير الذي كان في وجود عبد الناصر، ويظل هذا لغزا لا يمكن تفسيره حتى الآن، فمصر عشية وفاته كانت غير مصر التي عاشت معه 16 عاما، ولكن حركة حماس وقادتها غيروا نمط البناء التنظيمي للحركات والأحزاب بل والدول.

بناء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) استفاد كثيرا من عيوب وخطايا حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تغيرت كثيرا برحيل قادة فتح التاريخيين، ثم رحيل ياسر عرفات الزعيم التاريخي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي بدأ تغير كبير في الحركة كقيادة للنضال الفلسطيني والمقاومة في حياته، وكانت الدروس حاضرة لقادة حماس في الدول وحركات المقاومة الوطنية، وكان العمود الرئيسي لبناء الحركة هو الإيمان والعقيدة، والقدرة على الصمود والتضحية، وكان هذا سر استمرار الحركة وبقائها.

يمكن القول إن هذه السمات وجعلها مقياسا لأعضاء الحركة وقادتها هي سر وجود كل هؤلاء القادة وقدرة الحركة على إنجاب قادة جدد لهم السمات نفسها للسابقين، وهو ما يجعلها قادرة على الصمود والاستمرار حتى تحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر، لم تتركز الحركة في قائد واحد، ولم يجعل هذا القائد الثقة والقرب منه والولاء له معايير لاختيار القياديين، بل الولاء والإيمان بالقضية الفلسطينية والوطن والقدرة على التضحية من أجلها.

تمددت هذه الصفات فأصبحت سمات كل الشعب في غزة، أطفالا وشبابا، رجالا ونساء، شيوخا وعجائز، واستحقوا أن يكونوا طلائع نصر الأمة. ورغم كل التضحيات من شهداء ومصابين، ورغم كل ما تهدم في غزة، فإن شعب فلسطين وخاصة في غزة والضفة الغربية يستحق الانتصار، ويستحق أن يكون أكثر شعوب العالم حبّا لوطنه، كما قال أحد السياسيين الصهاينة، فكان شعار “إنه لجهاد؛ نصر أو استشهاد” الذي أطلقه أبو عبيدة حقيقة عند كل أبناء فلسطين، فهنيئا لهم النصر والاستراحة والفرح، ولتكن غزة مثالا لكل الباحثين عن الحرية والنصر، ولا عزاء للمتخاذلين والمرجفين.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان