25 يناير.. الحرية والمرأة والفن

ليست الثورات هبات جماهيرية تنتهي بعودة أصحابها للمنازل، فالأمر أعمق من ذلك بكثير.
أثر الثورات يتسرب إلى الوجدان العام ببطء، فيغير من وعي الناس ويطوره.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعندما يستسلم العالَم للتطرف
تصعيد غير مسبوق للمعارضة التركية.. لهذه الأسباب!
حرب الذكاء الاصطناعي
أيام وتهل الذكرى الرابعة عشر لثورة يناير/كانون الثاني الخالدة في مصر.
ورغم أي شيء فإن الأثر الاجتماعي الذي أحدثه زلزال يناير الكبير لا تخطئه عين، ولا يمكن إنكاره أبدًا.
بعيدًا عن السياسة وجدلها ومعاركها، أحدثت الثورة آثارها الواضحة على المجتمع المصري في ثلاث قضايا بدأت في الميدان وتطورت إلى حيث المجتمع وأهله.
مع كل التحديات التي واجهتها يناير-لا سيما في السنوات العشر الأخيرة- فإنها حملت معها إرثًا غنيًا بالتغيير الاجتماعي:
من مشاركة النساء في الحياة العامة، إلى تصاعد الوعي الشاب والجديد بأفكار الحرية، ثم حضور الثورة المتجدد -رغم الحصار- في الفن والثقافة تتألق “الأيقونات” التي تظلل مصر من أقصاها إلى أقصاها.
المرأة في قلب المشهد العام
بمعاركها الكبرى وشعاراتها الملهمة فتحت الثورة أبوابًا جديدة.
مشاهد النساء في ميدان التحريرعام 2011 يقدن الهتافات وينحزن للحرية كانت ملهمة، فلم يتوقف سعي المرأة المصرية منذ ذلك الحين عند لحظة الميدان، بل استمر لما بعدها وحتى اليوم.
بكل معنى سياسي واجتماعي فإن ما نشاهده اليوم من طرح قضايا المرأة في المجال العام بتلك القوة هو الأثر المباشر لمشهد ميادين التحرير الملهم، الذي زينت المرأة حضوره وعظمت من معاركه.
في ظهور الحركات النسوية وانتشارها للمطالبة بالمساواة والعدالة، وفي حضور قضايا مثل التحرش والعنف ضد المرأة، وضرورة وجود بيئات عمل آمنة للنساء، ثم المطالبة بتغيير التشريعات واللوائح التي لا تحقق المساواة وغيرها من موضوعات خرجت للنقاش العام نلمح من بعيد أثر يناير حاضرًا ومنيرًا.
بالضربة القاضية تخلصت يناير من منطق السكوت على ما يقع ضد النساء من ظلم، وفتحت المجال العام أمام قضايا اجتماعية هي جزء من صميم قيم العدالة والمساواة والمواطنة.
جيل جديد ووعي متجدد
الثورة لم تكن مجرد حدث عابر ولن تكون.
مثلما فتحت يناير الأبواب لجدل عام يهتم بالمرأة وقضاياها كانت بمثابة شرارة أطلقت وعيًا جديدًا لدى الأجيال الشابة.
في الميدان ولأول مرة، اختبر الشباب شعورًا حقيقيًا بالقدرة على التأثير والتغيير.
تسربت الأفكار التي انتعشت في ميدان التحرير إلى الوجدان لتصبح أكثر إلهامًا للأجيال الشابة رغم الحصار الكبير المفروض على المجال العام في مصر.
أفكار الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان لم تعد مفاهيم مجردة، بل أضحت مطالب حقيقية وأحلامًا مؤجلة لدى قطاع واسع من أجيال مصرية شابة أطلت على العالم من الميدان، وأكملت وعيها بالتواصل معه عبر التكنولوجيا.
في الشعور بالحرية لعدة أشهر فقط ما يغري على استكمال الطريق الصعب.
إلهام يناير الخالدة يطل بوضوح وبعمق في انفتاح قطاعات شابة واسعة على النقاشات السياسية والاجتماعية، وفي تبنيهم لأساليب جديدة للتعبيرعن آرائهم، تلك التي تظهر على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
وفرت شبكة الإنترنت مساحة جيدة لتبادل الأفكار بعيدًا عن القيود التقليدية.
وكشف طوفان الأقصى عن درجات اهتمام هائلة من الأجيال الشابة بالحياة العامة والقضايا المركزية.
أعادت الثورة تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع، وأيقظت إدراك الشباب بأهمية الدفاع عن الحقوق والحريات، حتى لو كان المجال العام مقيدًا والحريات محاصرة.
فكل شيء قابل للتغيير.
الثورة في الفن والثقافة
في الفن والثقافة كانت الثورة حاضرة ومؤثرة.
لم يقتصر تأثيرها على السياسة والمجتمع، بل امتد إلى عالم الفن والثقافة.
بعد رحيل نظام الرئيس الأسبق مبارك بدا ميدان التحرير نفسه كمسرح مفتوح للإبداع.
بات الفن ميدانًا، وعُرضت الرسومات وأُلقيت القصائد، وصدرت ألأغاني والألحان التي تحتفي بالثورة والحرية وأحلام المستقبل.
بعد الثورة بعام ازدهرت موجة جديدة من الإنتاج الثقافي.
ظهرت أعمال سينمائية مثل “الشتا اللي فات” و”بعد الموقعة”، التي وثقت لحظات التاريخ وحاولت فهم ما حدث.
في الأدب الآن، انتصر الكتاب والمبدعون للثورة، حتى بمحاولاتهم مقاومة الهزيمة التي منيت بها في جولتها الأولى.
ركزت الروايات والقصص القصيرة في السنوات الأخيرة على ما حدث بعد يناير، وفتحت مسارات جديدة لإبداع يحاول أن يحكي القصة رغم الحصار المفروض على الثقافة.
جدران القاهرة وبعض المحافظات ما زالت تحتفي برسومات الجرافيتي التي شهدت طفرة كبيرة بعد يناير، وكأن هذا النوع من الفن ارتبط باسم الثورة فحكى بإبداع عن الحلم والأمل والتضحية.
الفن ليس مجرد وسيلة للتوثيق، لكنه بات الآن وبعد سنوات من الحدث الملهم مساحة للتأمل والنقد، وجزءًا من الحوار المستمر حول تأثيره ومستقبله.
يناير هي فاتحة الكتاب ومفتتح الطريق، وضربة البداية لطريق رسمت 2011 أولى خطواته، وسيتواصل السير حتى محطة الوصول، مهما كان الطريق صعبًا.
برغم ما حدث في السنوات التي أعقبت الثورة، يظل تأثيرها حيًا في قلوب وعقول المصريين. النساء اللواتي شاركن في الميادين لم يعدن إلى الوراء، بل يواصلن النضال بطريقتهن، والشباب الذين تعلموا قيم الحرية والكرامة لن ينسوا الدرس البديع، والفن الذي وُلد في أيامها يظل شاهدًا على أحلامها ومستكملًا لدوره وهو يحاول الآن التسرب من بين القيود والحصار.
لم تكن 25 يناير مجرد لحظة في الزمن، بل كانت حركة عميقة تركت بصمتها في كل ركن من أركان المجتمع الذي كان متعطشًا لحالة التغيير.
في الذكرى الرابعة عشرة للثورة تتواصل المسيرة ببطء، ويستمر المسار في التقدم يومًا بعد الآخر، يصل إلى شرايين العقل الجمعي بلا ضجة.
يناير تحكي وتغير وتكتب وتبدع وتبني وعيًا جديدًا يتسرب إلى القلوب والعقول.
لا تنهزم الثورات بشكل نهائي، هذه حقيقة مؤكدة كتبها التاريخ.
ستواصل الثورة المد والجذر والشد والجذب حتى يوم اليقين.
وهو يوم آت مهما تأخر!