رسالة لصديق بغزة انقطعت أخباره

إلى الآن وبعد 471 يوما من حرب الإبادة ويومين من وقف إطلاق النار لا خبر عن محمد المشوخي صديقي زميل دفعة إعلام جامعة القاهرة قسم صحافة 76 ـ 1980، وقد أخبرني لاحقا بتوليه مسؤولية مدير إذاعة صوت فلسطين في غزة، لبضع سنوات بعد “أوسلو” ومع السلطة الفلسطينية.
ولذا قررت أن أكتب إليه هذه الرسالة، لعلها تصل لصاحبها، أو يقرأها من يفيدني بمعلومة عنه.
*
عزيزي محمد
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأكذوبة ترامب.. “ريفييرا الشرق الأوسط”!
نقابة الصحفيين بمصر: انتخابات الأجر والحرية
معرض القاهرة للكتاب.. بين فخر الماضي وشكوى الحاضر
في بداية الحرب طرقت السبل الممكنة لأعرف أين أنت؟ وهل مازالت على قيد الحياة؟ وأين أصبحت وأسرتك المكونة من زوجة مصرية زميلة بالكلية (دفعة تالية)؟ عدت بها إلى غزة، وأنجبتما عددا وفيرا ما شاء الله من الأولاد والبنات. ربما ثمانية أو تسعة، وأعذرني لا أتذكر بالتحديد، مع أنك حدثتني عنهم عندما كنت تزور مصر إلى ما قبل نحو عشر سنوات ويزيد، فنلتقي.
سألت من أظن معرفته بأهل غزة، وكتبت اسمك مرارا بمحركات بحث مواقع إلكترونية فلسطينية وبـ “جوجل”، لعل وعسى. وأندهش وأقلق كل مرة عندما لا أصادف إلا محمد المشوخي لاعب كرة القدم بنادي غزة الرياضي، أو طفل من رفح بهذا الاسم بصفحته صورة ثلاث ورقات توت بين الأصفر والأخضر، ليس إلا وبلا كلمة واحدة.
وحتى كل ما يتعلق بهما يعود إلى ما قبل الطوفان/ طوفان الأقصى. ولا معلومة عنك أنت. ولا ذكر لك، وكأنك يا رجل لم تولد ولم تكن، أو لم يدركك عصر الإنترنت.
البحث في
كومة قش
وكأنني أبحث عن إبرة أو تسع أو عشر إبر تفرقت في كومة قش، هي ما أصبحت عليه غزة التي كان يطلق عليها “علبة سردين” تكتظ بما يزيد على مليوني انسان في مساحة محاصرة أبعادها 41 كيلو مترا طولا وبين 6 إلى 12 كيلومتر عرضا.
بحثت عنك بطول أيام الإبادة ومقاومتها الأسطورية بما تيسر من سلاح ومليوني فم بلا مياه ولا طعام وجسد من لحم ودم بلا مأوى ولا ملاجئ ولا مستشفيات ولا مواصلات تكفي أمام هطول نحو 100 ألف طن من القنابل. بحثت وأنا لا أتصور أن تتحملها “علبة السردين” هذه، فلا تنفجر وتنمحي تماما. لا مجرد أن ينخفض عدد سكانها الأعلى خصوبة بين شعبهم، وللمرة الأولى بتاريخها، وبنسبة 6 في المائة، وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بداية هذا العام.
تلح ومصيرك على الخاطر فأعود للبحث عنك، والناس في غزة يجرى تجريفهم بآلات أعتى وأحدث تكنولوجيا قوى الطغيان الصهيوني الأمريكي، مع حرث أرضها من شمالها إلى جنوبها وبالعكس مرة تلو أخرى، وجعل ما تبقى من حطام البيوت عاليها سافلها، والفلسطيني متشبث بما تبقى من أرضه لا يريد نكبة أو نكسة أخرى، وكأن غزة جداره الأخير.
أعود أطمئن النفس بتوهم إنك تقود أسرتك داخل نفق تحت الأرض أو تسبحون في بطن حوت. وأتذكر عندما زرتني بين العامين 12 و2013، وعرضت أن تدخلني إلى غزة عبر الأنفاق لأرى وأكتب وأنشر بالأهرام، وإن لم أستطع ففي غيره، فلم أوافق. ربما خوفا وجبنا إيثارا للسلامة، أو ذعرا من الاختناق بدخان سجائرك وأنت تصحبني، وقد عجزت عن إقناعك منذ سنوات الدراسة بالإقلاع عنها، وعجزت أنت عن إغوائي بالتدخين.
جيل جديد
يعلن عن مولده
على مدي يومين، أخذت أتمعن بعناية في صور وجوه من ينفجرون حياة وتحديا ومقاومة بساحات غزة بين الدمار فرحا بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، فعجزت عن الاهتداء إليك.
ثم انتبهت إلى أن غالبية من أبصرت هم من الصبية والأطفال ومقتبل سنوات الشباب، ممن ولدوا بعد شبابنا الجامعي بعقود طوال وعجاف، حافلة بأحداث عدوان الاحتلال ومقاومته.
تساءلت هل يشبهوننا، أو على الاقل يشبهون ما كنا عليه من تحد نهاية سبعينيات القرن الماضي، ونحن لا تروق لنا زيارة السادات للقدس المحتلة واتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح والتطبيع المنفرد مع إسرائيل، ولا يمكننا تصور التعايش مع الصهيونية والقبول بها، أو الثقة في أن 73 آخر الحروب مع إسرائيل وبقرب الرخاء؟ أم إنهم جيل جديد، احترق فخاره بنار الإبادة، يفوق كل من سبقه تحديا وإصرارا وعزيمة على المقاومة والحرية والتحرير، ونأمل أن يفعل ما عجزنا عن إنجازه.
وها هو ينهض من بين الخراب والأحزان على نحو 45 ألف شهيد و110 آلاف مصاب وخذلان ذوي القربي والجوار، ليحتضن من قاوم بالسلاح والدم، ويسخر من كلام ترامب وبايدن ونتنياهو وكل من يقول: “حماس انتهت ولن تحكم غزة”. بل وحتى من شروط المراسل فالمحلل العسكري العجوز “رون يشاي” الثلاثة للاستمرار في الصفقة “بيديعوت أحرونوت” أمس 20 يناير: نزع سلاح غزة، وتخلي حماس عن مسؤولية حكمها وإدارتها، وإطلاق سراح بقية “رهائننا” مستقبلا بأماكن سرية بعيدا عن الحشود.
يسخر من كل هؤلاء، وقلة حيلتي مع ما يزيد على 100 مليون مصري على مقربة، ليشير بعلامة أمل ونصر نحو المستقبل.
وبيننا شاشة التلفزيون
وذكريات كامب ديفيد
بمناسبة التحدي، خلتك للحظة أمامي، بيني وبين شاشة التلفزيون عند إطلاق الدفعة الأولى من أسرى المستعمرين، فذكرتك بلحظة طلب أستاذنا المحاضر فور دخوله مدرج الكلية، مستهزئا بمعارضي “سلام السادات مستبعدا كون مصري واحد بينهم، أن يقف الطلبة العرب غير المصريين ليخصهم بالتوبيخ، فتفاجأ بالعديد من الزملاء المصريين يقفون أيضا، وكنت أنا بينهم، لردع جهله وإساءته وحماقته العنصرية.
هذه الفعلة التي لم نجد لها تفسيرا، عندما قطعنا معا كوبري الجامعة بعد المحاضرة، سوى نفاق الحاكم والسلطة، ولعل هكذا نفاق أحمق ينفع من أجل منصب. وكان النيل يجرى من خلف أسوار الكوبري، وأنا أنظر إليك، فانتبه كيف احتفظت بكوفيتك الفلسطينية حول عنقك وفوق كتفيك؟، ولم تخلعها، لا عندما دخلت إلى المحاضرة، أو بعدما غادرناها سويا.
ولا أتذكر الآن هل صارحتك حينها باعتقادي بمسئوليتنا في القاهرة حربا وسلما، ولم يكن بعد أضيف إليهما عار الحصار عن إعادة احتلال ومعاناة غزة بالأخص؟ أم أنني خجلت فسكت.
ما عدنا نصلح لعمل
ميداني يؤدي للشهادة
بالأمس عدت إلى البحث عنك بشبكة الإنترنت، راجعت مجددا قائمات الصحفيين الفلسطينيين الشهداء منذ بدء الحرب على غزة، وبلغوا 193، فلم أجد اسمك. فكررت حمد الله، والقول بأننا هرمنا، وما عدنا نصلح لعمل الميدان وتعبه وتضحياته، وبارك الله في الشابات والشباب.
كتبتك بموقع وكالة “وفا” الفلسطينية الرسمية، ففشل محرك البحث في التجاوب مع نقر الأصابع. وانتبهت إلى كيف تتصدر صور وأخبار الرئيس محمود عباس، وتوجيهاته لاستكمال آخر الاستعدادات لتولي سلطته كامل شئون غزة فور بدء الهدنة؟ فشعرت بحسرة. وتذكرت أنك “فتحاوي”عريق، وحتى آخر لقاء لنا.
ولا أعرف الآن، هل تتقبل حماس وأقلعت عن ضيقك بها، وتجاوزت أخطاءها وخلافاتها؟ وكما تبين لي مؤخرا عند أصدقاء فتحاويين انتقلوا من الحنق عليها إلى الفخر بمقاتليها ومفاوضيها، وبكل مقاوم لليوم، وبتاريخ جديد لصمود الشعب الفلسطيني كله.
وعندما انتقلت من “وفا” إلى الموقع الإلكتروني لمنظمة التحرير لأبحث عنك، وبلا نتيجة أيضا، طالعت تقريرا يوثق لصفقات إطلاق الأسرى الفلسطينيين، ويرصد ثمان منها قبل عملية التبادل الجارية حاليا. يبدأ بتحرير 37 أسيرا 1968 بعد اختطاف الجبهة الشعبية لطائرة العال الإسرائيلية، وينسب ما يليها: اثنين لفتح، واثنين للجبهة الشعبية/ القيادة العامة، ولا ينسب ثلاثا أخرى ذكرها إلى أبطالها: حماس. وتساءلت: هل تقبل بهذا فلسطينيا وصحفيا؟ وهل تراه يفيد الوحدة الوطنية والتحرر والاستقلال؟
محمد
لو مازلت حيا وبخير، طمئنني عنك وعنكم جميعا.
والسلام الحق ختام