ماذا ينتظر غزة بعد وقف إطلاق النار؟

غزة بعد وقف اطلاق النار (رويتز)

كانت حرب إبادة شاملة استمرت 471 يوما، طالت البشر والشجر والحجر، وألقيت فيها متفجرات تعادل عدة قنابل ذرية كقنبلة هيروشيما، واستهدفت المنازل والملاجئ ومقار النزوح وطوابير الجوع والموت ومواقع انتظار شاحنات الدقيق والأسواق وأي تجمعات للناس بأكثر من 3300 مجزرة، وتجاوز ضحاياها 160 ألفاً من الشهداء والجرحى غير المفقودين تحت الأنقاض (تقدر مجلة “لانسيت” الطبية أن عدد الشهداء يتجاوز 64 ألفاً، أعلى بـ41% من سجلات وزارة الصحة، 59% بالمئة منهم أطفال ونساء ومسنون).

وقُصفت مستشفيات وأحيلت مدافنَ جماعية وأبيدت أطقمها ونزلاؤها، وسيق آلاف منهم للاعتقال التعسفي وقتل العشرات تعذيباً، ونُسفت أحياء سكنية ومدارس وجامعات ومرافق ومحطات مياه ومجاري، وأحرقت مراكز الإيواء وخيام النازحين بقاطنيها، وجُرّفت المقابر…

أخيراً، بدأ تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين إسرائيل والمقاومة. وبصرف النظر عن تفاصيل الاتفاق ومراحله، يلفت جون دافنبورت، أستاذ الفلسفة ومدير دراسات السلام والعدالة بجامعة فوردهام بالولايات المتحدة، إلى أنه من بين مناطق الفظائع الجماعية والقصف الممنهج للمدنيين بهذا القرن، تبرز غزة حالة متفردة. فسكانها أربعة أمثال سكان ستالينغراد الذين حاصرتهم القوات النازية خلال الحرب العالمية، وعجزوا عن الخروج من الأنقاض للنجاة بحياتهم. وقد وصفت “أطباء بلا حدود”غزة بـ”فخ الموت”.

فأي مستقبل ينتظر مليوني وربع المليون إنسان في غزة؟

فالمدن بحالة خراب غارقة تحت الأنقاض وأكوام القمامة المتعفنة ومستنقعات الصرف الصحي، ومعظم المباني أنقاض أو خَطِرة لا تصلح للسكن. وتتجمع عائلات وأقارب في بنايات أو شقق آيلة للسقوط وبلا جدران خارجية تحت وطأة شتاء قارس. وعلى مدى 15 شهراً، لا اقتصاد ولا خدمات بلدية ولا طبية ولا مستشفيات ولا مدارس ولا تعليم، ولا رواتب معلمين وموظفين ولا إنتاج. ودمرت إسرائيل معظم الطرق والبنية الأساسية للكهرباء والماء والصرف الصحي. وحتى لو أنشئ صندوق بعشرات مليارات الدولارات لإعادة إعمار غزة، فسيأخذ ذلك عقدا أو أكثر قبل أن تصلح للحياة.

يشير دافنبورت إلى أن معظم الإسرائيليين لا يدرك حقائق هذا الواقع الرهيب، فقد منعت حكومتهم دخول الصحفيين لغزة، وفرضت الرقابة على تقارير تغطي الدمار الهائل. وتعرضت وسائل إعلام غربية لحملة شيطنة اعتبرت انتقاد نتنياهو وحكومته عداءً للسامية، وتم مساواة الانتقادات والاحتجاجات بالإرهاب، وجرى التنكيل بطلاب الجامعات وتعنيف رؤسائها وترهيبهم وابتزازهم بقطع الدعم عنها لإخضاعهم واختزال صورة الحرب وخطورتها وعواقبها، ليتصور أغلبية الناس بالغرب ولو انطباعاً أنه بإعلان وقف إطلاق النار ستعود أمور غزة بخير.

وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة والواقع، فإسرائيل لن تدفع تكاليف إعادة إعمار غزة، بل لن تسمح به أصلاً، كما وقع بعد معركة 2014، وبقي الدمار على حاله حتى اندلاع طوفان الأقصى، ليتضاعف أضعافاً كثيرة. ولن تسمح بدخول أي موارد مالية أو مواد بناء أو معدات، تتطلبه إعادة الإعمار إلا بضغوط “حقيقية”، سياسية واقتصادية وعسكرية، غير متوقعة من رعاتها الغربيين.

وإذا كان مجرد وقف المذبحة استغرق 15 شهراً وتغيير الإدارة الأمريكية، فكم سيستغرق إقناع كيان استيطاني استعماري متأزم وحاقد، فشل في احتلال غزة واستيطانها وتطهيرها عرقياً، ليرفع الفيتو على دخول مستلزمات الإعمار، خاصة مع استمرار سيطرة المقاومة؟!

بل يرجّح استمرار احتلال منطقة عازلة بعمق مئات الأمتار شمال وشرق القطاع ومياه ساحل غزة، وحظر الوصول لموانئها. وستشدد سيطرتها الكاملة على كل شيء وكل شخص يدخلها، بما في ذلك المعبر الجنوبي مع مصر.

وهكذا، سيخيم الفقر المدقع طويلا على أهل غزة، ويكافحون للبقاء عبر المساعدات الغذائية، والطهي على نيران الحطب والنفايات، والبحث في أنقاض بلا نهاية، وأمراض سوء التغذية وحالات طبية حرجة بالآلاف يرفض الاحتلال خروجها للعلاج – بما في ذلك آثار بتر الأعضاء المتسرع وصدمات نفسية مروعة. وإذا سمح (المجتمع الدولي) بهذا، فقد تصبح حصيلة القتلى بين المحاصرين داخل غزة هائلة خلال بضع سنوات.

لقد تكررت إشارات غامضة عن حكومة مستقبلية في غزة لا تشمل المقاومة، لكنها بلا أفق في ظل رفض حكومة نتنياهو لأي مسار نحو حل الدولتين وأي دور للسلطة الفلسطينية، التي لا يُرحب بعودتها أصلا غير قلة، وتعنتها إزاء فكرة لجنة الإسناد المجتمعي المقترحة لإدارة غزة بعد توقف الحرب.

وكل المقترحات المقدّمة تنطوي على نزع سلاح المقاومة والسيطرة على الأرض تماماً وهو هدفٌ لم تحققه إسرائيل خلال 15 شهراً من حرب الإبادة، ويقدر خبراؤها أنه يحتاج سنوات طويلة. لذلك، يُرجَّح أن أي سلطة من خارج المقاومة – قد تُفرَض في ظل الظروف الراهنة – ستكون ضعيفة وغير قادرة على منع الفصائل من التجنيد والعمل مستقبلاً.

التفكير في الهجرة

في ظل هذه الآفاق الكئيبة، وحتى لو فكر بعض السكان في الهجرة، وهي فكرة مريرة تمقتها أجيال فلسطينية تكرر نزوحها مرات، فإنهم للمفارقة لن يستطيعوا مغادرة القبور الجماعية التي خلّفها لهم نتنياهو، إلا إذا سمح لهم بذلك!

لكن المشكلة الأكبر أنه لا مكان يذهب إليه أهل غزة. وقطعاً لن تسمح إسرائيل بانتقال بعضهم للضفة الغربية مثلاً، فالاستيطان الإسرائيلي يطرد أهل الضفة من قراهم ومزارعهم على التلال إلى مدن مكتظة بسكانها، ويُحظر فيها منذ عقود بناء مساكن جديدة أو توسعة وترميم القديمة. فتقوم إسرائيل روتينياً بتجريف المخيمات وبنيتها الأساسية من خطوط مياه وكهرباء وصرف صحي وأوساط المدن، وتقصف الأحياء السكنية أرضاً وجواً، وفي 2024 وحده نسفت أكثر من 1500 مبنى للفلسطينيين.

يحذر دافنبورت من أن تبدو غزة بعد عدة سنوات على هيئتها يوم الأحد 19 يناير 2025، لدى توقف القصف الإسرائيلي، باستثناء الشريط الشمالي الذي ستواصل إسرائيل احتلاله لتحويله إلى خط ماغينو جديد! ويخشى أن يستمر سكان غزة المتضائلون تدريجياً في العيش من عام لآخر بمخيمات مؤقتة تغذيها وتخدمها مؤسسات خيرية لا تملك إعادة بناء البنية الأساسية المدمرة، أو توفير مظاهر الحياة الطبيعية.

حتى مع وقف إطلاق النار، يُخشى أن تظل غزة عالماً بائساً كارثياً لأكثر من مليوني إنسان. لقد شهد أطفال غزة أهوال الإبادة التي لا توصف، وقد يتلقون تعليماً رسمياً محدوداً إن توفرت إمكانات، وسيواجهون مستقبلاً بلا أمل أو أفق تحت حصار كامل للحاضر والمستقبل.

لكن الأنكى أن وقف إطلاق النار لا يعني بالضرورة نهاية حرب الإبادة، فحكومة اليمين المتطرف لا يُضمن التزامها بمراحل الاتفاق التالية والانسحاب من كافة أراضي القطاع، فهي لا ترى نهاية للحرب إلا باحتلاله وتطهيره عرقياً والسيطرة عليه أمنياً وإعادة استيطانه، باختصار: استمرار الإبادة.

مؤخرا، ومع احتلال إسرائيل للمنطقة العازلة بهضبة الجولان السورية وقمم جبل الشيخ وقرى عديدة ووصولها إلى سدود وخزانات مياه سورية؛ واستمرار عملياتها بجنوب لبنان، ومنعها عودة سكان قرى حدودية لبنانية ونسف مربعاتها السكنية ومنشآتها–بأريحية تامة–على مرأى ومسمع مراقبين وجنرالات أمريكيين وفرنسيين، فهو مؤشر على أن نهاية حروب إسرائيل (الكبرى) الأبدية التوسعية ليست في الأفق.

في غزة، سوف يبلغ خواء كل وعود الغرب ذروته، ويتفاقم نفاق معايير حقوق الإنسان المعلنة، وسيكون معروضاً للعالم ليراه رأي العين.

رغم قتامة المشهد أعلاه، فقد أثبتت غزة والجوار العربي قدرة إنسانية واقتصادية وحضارية على تجاوز حصار الواقع ومحدودياته وانعدام آفاق تغييره واختناقه، وأنتجت مقاومة مقتدرة لا يمكن للحسابات المادية توقعها في سياق الاحتلال وقهره وظلامه.

سيكون التحدي الأكبر أمام الشعب ومقاومته قبل إعادة الإعمار، إعادة بناء الاجتماع والإجماع حول الصمود والتكافل وعدالة التوزيع، وأول خطوة أن تكف المقاومة عن الأثَرة والجباية المرهقة للناس، وعن عبادة هياكلها وعصبيتها التنظيمية ومحاباة أفرادها وأنصارها بالوظائف والعطايا وملكية الأراضي وتمييزهم بالدعم والإغاثة دون الناس، لأن الإبادة والدمار والإفقار لم تميز بينهم أبداً.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان