الكتيبة الإعلامية في غزة.. وطوفان الوعي

الظهور المتكررلـ (أبو عبيدة) مثل وجبة إعلامية دسمة

أنس الشريف مراسل تحت القصف (منصات التواصل)

في الحروب والمواجهات الكبرى لا يكفي أن تقاتل الجيوش المسلحة وحدها، يلزمها جيوش أخرى إعلامية وطبية، وجبهة داخلية صلبة داعمة، تضع كل ثقلها خلف العمل الحربي، حتى يؤتي أكله، وحين تغيب هذه الجيوش الداعمة أو حتى أحدها ينعكس ذلك سلبا على ساحة القتال، فتختفي الرواية الحقيقية ليحل محلها روايات كاذبة عن هزائم لم تحدث، وعن استسلام هنا وهناك، ما يحبط الروح المعنوية لبقية المقاتلين.

حرب غزة الأخيرة نموذج رائع في تكامل الجبهات القتالية والإعلامية والطبية والجبهة الداخلية.. إلخ، تحتاج كل جبهة إلى حديث منفصل لكننا اليوم نتحدث عن الجبهة الإعلامية التي قدمت أروع صورة للمهنة من ناحية وللمبادئ السامية من ناحية أخرى، وقدمت إسنادا مهما لجبهة القتال، التي أراد العدو منذ اللحظات الأولى فرض التعتيم الإعلامي عليها، ودفع الصحفيين والمراسلين الأجانب لمغادرة غزة (ترهيبا وترغيبا)، حتى يتسنى له فرض روايته، ونشر أكاذيبه، بهدف إلحاق الهزيمة المعنوية بغزة شعبا ومقاومة وكل من يقف خلفها، فتصدى للمهمة أبناء غزة من الصحفيين والمراسلين والمصورين، حتى أن الكثيرين منهم تعلموا المهنة وبدؤوا العمل بها خلال فترة الحرب.

ليس حبا للشهرة والمال

لم يكن إعلاميو غزة يبحثون عن شهرة أو مال، فكم من الشهرة وكم من المال يمكن أن يوازي الموت برصاصة عدو غادر، أو حتى فقدان عين أو رجل أو ذراع؟! وكم من الشهرة والموت يوازي قتل الأهل والأبناء والجيران وتدمير بيوتهم على رؤوسهم؟! لقد هرعوا جميعا لأداء مهمة مقدسة، لا تقل عن مهمة المحارب الذي يحمل البندقية، أو الصاروخ.. صواريخهم الإعلامية نقلت الحقائق على الأرض كما هي، عرت أكاذيب العدو، أوصلت الصورة الحقيقة للعالم الذي كان أسير الرواية الإسرائيلية، وهو ما أسهم في تغيير كبير في قناعات قطاعات شعبية واسعة في الغرب خاصة جيل الشباب، وكان ترجمة ذلك تلك المظاهرات الكبرى التي عمت الجامعات الأمريكية والأوروبية والأسيوية، والتي حرمت منها للأسف جامعاتنا العربية بسبب القمع الأمني.

خاضت الكتيبة الإعلامية الغزاوية المعركة بكل جهدها، واختلطت دماؤها بدماء بقية الشهداء، وفقدت 205 شهداء يمثلون ربع القوة الإعلامية تقريبا، بخلاف المصابين، ومنهم من بُترت أطرافه، كما أن العديد منهم فقدوا جزءا كبيرا من عائلاتهم في استهداف صهيوني موجه ضدهم، ومع ذلك وجدنا إقداما من هؤلاء الإعلاميين على التغطية في الجبهات المتقدمة والأشد خطورة على حياتهم رغم التنبيهات المتكررة من مؤسساتهم الإعلامية بضرورة توخي الحيطة والحذر، والحرص على سلامتهم الشخصية.

العبور بلا إعلام

لم نكن لنعرف ما يجري على الأرض لولا هؤلاء المقاتلون الإعلاميون. ومن الجدير بالذكر هنا غياب الإعلام المصري عن تغطية حرب 6 أكتوبر/تشرين أول 1973 لدواعٍ أمنية تتعلق بالحفاظ على سرية التخطيط والتمويه. أتذكر أنني استمعت خلال حضوري فعاليات الندوة الكبرى عن حرب أكتوبر في الاحتفال باليوبيل الفضي عام 1998 اعترافا من بعض كبار قادة الحرب بهذا الخطأ الذي حرم الشعب المصري من مشاهدة لحظات عبور القناة وتحطيم خط بارليف الحصين وتحرير مساحات من أرض سيناء.

وأكد هؤلاء القادة أنه كان من الممكن اصطحاب بعض المراسلين والمصورين، واحتجازهم في أحد نوادي القوات المسلحة قبيل الحرب حفاظا على ألا تتسرب خطة المعركة، ومع اللحظات الأولى لبدء العمليات يتم اصطحابهم إلى ساحة المعركة.. لقد كانت كل اللقطات التي شاهدناها عن حرب أكتوبر1973 لقطات تمثيلية تم تصويرها لاحقا، بينما المشاهد التي رأيناها لحرب غزة كانت بثا مباشرا!!

إعلام المقاومة

الجبهة الإعلامية لم تكن مقتصرة على المراسلين والمصورين الصحفيين الذين يعملون لوسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية، ولكن هناك إعلام المقاومة نفسها سواء التابع لحماس أو الجهاد أو لغيرهما، وهذا الإعلام نقل مشاهد العمليات الميدانية التي لا يستطيع المراسلون والمصورون العاديون الوصول إليها، أو ليس من الصواب أن يقتربوا منها لأنها اشتباكات مباشرة أو عمليات تفجير عن بعد، وهذه العمليات التي نقلها إعلام المقاومة هي التي كشفت خسائر العدو البشرية والمادية، والتي كان العدو يحرص على إخفائها.

كما كان الظهور المتكرر للمتحدث باسم كتائب القسام (أبو عبيدة) يمثل وجبة إعلامية دسمة، لتقديمه الجديد في كل مرة، وقد اكتسبت بياناته وتصريحاته مصداقية عالية لم يستطع العدو تكذيبها، ويضاف إلى ما تقدم الطريقة الإعلامية المبهرة المصاحبة لعملية تسليم الأسرى في الجولة الأخيرة وسابقاتها.

ضمن الإعلام الداعم للشعب الفلسطيني ونضاله المشروع من أجل الحرية والاستقلال تأتي شبكة الجزيرة في المقدمة بنسختيها العربية والإنجليزية. وقد أحدث وجود الجزيرة توازنا كبيرا مع الإعلام الدولي الداعم للكيان الصهيوني، والمروج لروايته الكاذبة. وقد فقدت الجزيرة عددا من مراسليها، ومصوريها أثناء تغطياتهم الميدانية، كما نجحت في إدخال العديد من الوجوه الإعلامية الجديدة التي أثبتت كفاءة مهنية عالية في وقت وجيز.

طوفان الوعي

في كلمته الأخيرة دعا أبو عبيدة لما وصفه بطوفان الوعي، وكانت البشائر الأولى لهذا الطوفان قد ظهرت في الغرب، وخاصة لدى طلاب الجامعات، وهم الجيل الذي ترعرع على الرواية الإسرائيلية التي تنقلها القنوات والصحف الكبرى المعروفة، لكن هذا الجيل الصغير الذي سيقود تلك الدول في المستقبل، لم تنطل عليه الدعاية الكاذبة، كما لم يستسغ صور القتل والدمار في غزة، فهب رافضا لها في مظاهرات حاشدة.

لا يمكن القول إن هذه الحالة تمثل النسبة الأكبر في الغرب التي لا تزال حتى الآن أسيرة الرواية الصهيونية، ولذا جاءت دعوة أبو عبيدة إلى طوفان الوعي لاستكمال هذا المسار، وهو تصحيح الصورة لدى الشعوب الغربية، بل وحتى لدى قطاعات كبيرة من الشعوب العربية والإسلامية التي تعيش حالة هزيمة نفسية فرضتها عليها أنظمة الحكم وأذرعها الإعلامية.

التحية واجبة لكل الإعلاميين الذين ضحوا بسلامتهم الشخصية في مقابل نقل الحقيقة للعالم، والذين نجحوا في تحطيم الرواية الإسرائيلية، وأصبحوا محل ثقة عالية حتى لدى قطاعات داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه شاهدناها تلتف حول شاشة الجزيرة مؤخرا لمتابعة عملية تسليم الأسرى.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان