جريمة الأقصر وذبح المُسن المريض.. لماذا كل هذا العنف؟

جريمة مرعبة، مروعة، مُذهلة، شهدتها أمس (الأربعاء)، مدينة الأقصر المصرية (670 كيلومترا جنوب القاهرة).. شاب (39 عاما) يقطع رأس جاره المُسنّ المريض (59 عاما)، ويطوف به الشوارع، ثم يكتب بـ”دماء القتيل” عبارات غامضة على الجدران. وقعت الجريمة البشعة، بأحد شوارع وسط المدينة، التي يخترقها نهر النيل، ويسكنها أقل من 300 ألف مواطن، يتميزون بالوداعة، والطيبة، وسُمرة البشرة. “الأقصر” مسرح الجريمة، مدينة سياحية هادئة، تفتح أذرعها للسياح الضيوف من كل أنحاء العالم.
مقطع الفيديو وجريمة الإسماعيلية
وفقا لشهود عيان، فالشاب كان في حالة هياج واضطراب، حاملا سكينا، مُهددا للمارة الذين فروا من أمامه، عدا القتيل، ويُدعى حجاج (موظف)، فلم يتمكن من الفرار، لمعاناته من أزمة صحية، ألزمته الاستعانة بـ”عُكاز” في الحركة والمشي. فانقض عليه الجاني بالسكين ليقطع رأسه، ويفصله تماما عن جسده، وهو في حالة هيستيرية، وقد المارة بعيدا يتأملون المشهد، ويصوّرونه بكاميرات هواتفهم الجوالة دون تدخّل، لينتشر بعدها مقطع فيديو للجريمة انتشار النار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي. الجريمة، تُعد نُسخة مُكررة لواقعة مماثلة، شهدتها مدينة الإسماعيلية (إحدى مدن قناة السويس)، عام 2021 عندما ذبح شاب يدعى عبد الرحمن نظمي صديقه بسلاح أبيض، نهارا. وقد حوكم بعد ذلك ليكون مصيره الإعدام شنقا. البيان الرسمي لوزارة الداخلية عن واقعة الأقصر، أكد أن الجاني يُعاني اضطرابا نفسيا، وليس هناك عداوة أو مشكلة له مع المجني عليه القتيل.
خناقة فتيات التجمع الخامس
في الأيام القليلة الماضية، توالت على مواقع التواصل الاجتماعي، مقاطع فيديو لخناقة بين “أولاد الذوات”، في مدرسة دولية للبنات في التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة. ثلاث فتيات، يضربن فتاة أصغر منهن بعُنف، ويكسرن أنفها، مع سباب بألفاظ نابية بذيئة.
وفي مدرسة دولية أخرى، بالإسكندرية اعتدى ثلاثة طلاب على زميل لهم، لقيامه بمنعهم من معاكسة فتاة، فأصابوه بجروح خطيرة، دفعته إلى غرفة العناية المركزة بأحد المستشفيات. ذبح المُسنّ في الأقصر، ومن قبله الشاب الذبيح في الإسماعيلية، وغيرهما مثل واقعة ذبح شاب لـ”نيرة فتاة المنصورة”، لرفضها قبوله خطيبا (عام 2022)، وبعدها بأسابيع، فتاة الزقازيق، التي صرعها شاب لأسباب مشابهة، وتفاخر ببث مقطع مصور لها وهي جثة هامدة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsحول الإعلام الداعم للمقاومة
إعادة تدوير القول الغربي!
لماذا سفير لأمريكا في إسرائيل؟!
هذا، إلى جانب ما شهدته المدارس الدولية، ووقائع أخرى على شاكلتها، جاء صادما، كاشفا عن تزايد منسوب العنف المجتمعي، وانتشاره، بين فئات المجتمع بمختلف مستوياتها.
العنف والطبقات الاجتماعية
لماذا كل هذا العنف، سواء في جريمة الأقصر، التي قد يكون للاضطراب النفسي دور كبير فيها، أو في الكثير من الحالات التي نطالعها ونسمع بها، بشكل متكرر من آن لآخر؟ في سياق الاجتهاد، فالبادي أن العنف يزداد تغلغلا في نفوس الكثير من المصريين، دون فروق كبيرة بين فئة أو طبقة متواضعة الحال، أو متوسطة، أو عليا كالتي ينتمي إليها طالبات وطلاب المدارس الدولية. فلدى أبناء الطبقات العليا، شعور بالحماية الاجتماعية، والنفوذ، والمنعة من الحساب والعقاب عند الخطأ، ويؤدي هذا إلى انفلات سلوكي لدى البعض بما يفتح نافذة، يطل منها العنف الكامن في النفس. أما المنتمون لطبقات متواضعة ومتوسطة، فقد راكمت هموم الحياة وصعابها لديهم قدرا من الكبت، وربما القهر ينعكس عنفا، ينفجر أو يعبر عن نفسه عند اللزوم.
عوالم غريبة وثقافات متنوعة
هناك عنصر فاعل لدى الجميع، مُحفز على العنف، هو تنامي الشعور، بأن القانون يقف عاجزا أحيانا عن رد الحقوق لأصحابها، فيلجأ البعض إلى استخلاص ما يراه حقا له، بيديه دون انتظار لكلمة القانون، التي قد يطول انتظارها.
لدينا في عموم المجتمع، خلل في تربية الأبناء سواء نتيجة لجهل الآباء بمختلف ثقافاتهم، بالأساليب الصحيحة للتربية، أو لانشغال الآباء والأمهات في العمل ساعات طويلة، أو بفعل التفكك الأسري الذي تزايدت حالاته. لتكون النتيجة هي ترك الأبناء فريسة لمواقع التواصل الاجتماعي، التي تستلب عقولهم ووجدانهم، بما تحويه من عوالم غريبة، وثقافات متنوعة، ومشاهد عنف وألعاب قد تتنافى مع قيمنا، ولا سيما أن الوصول إلى هذه المواقع يكون من خلال الهاتف الجوال الذي لا يفارقنا جميعا كبارا وصغارا. هذا مع غياب الدور التربوي لمؤسسات التعليم والثقافة والرياضة والشباب.
تفعيل المركز القومي للبحوث الجنائية
ظاهرة تنامي العنف لدى أفراد المجتمع تنذر بالخطر، إذ الخشية الآن هي من شيوع هذا السلوك العنفي ليزداد الإقبال عليه واعتناقه منهجا. لذا فالاجتهاد ليس كافيا للتعاطي مع هذا العنف المتزايد، إذا كنا نريد الحد منه.
بل اللازم والحتمي هو إخضاع هذه الحوادث والجرائم للدراسة والبحث بمعرفة أهل الاختصاص. وهذا يدفعنا إلى أن ننادي بتفعيل “دور المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية”، وبعثه من مرقده كي يوالي المركز دراسة مثل هذه السلوكيات والوقائع بُغية تشخيصها، ومعرفة أسبابها، ومن ثم التوصل إلى الحلول العلمية السليمة.
فالمُطالع للموقع الإلكتروني للمركز، يكتشف أن إنتاج المنصة البحثية المعنية بالرصد الاجتماعي والتقارير البحثية شبه متوقف منذ عام 2019، وأن نشاط المركز يبدو قاصرا على ندوات محدودة المجال والتأثير، لا نسمع عنها.
وذلك بعد أن كان هذا المركز في السابق، يتابع المجتمع بعين الباحث المدقق، رصدا للظواهر الاجتماعية، والتغيرات السلوكية، وتطور الجريمة، ونوعياتها، ومعدلاتها، ومناطق ظهورها، وملابسات ميلادها، وغيرها. وذلك ليكون كل هذا تحت مجهز التشريح العلمي، للخروج بالتوصيات اللازمة، وخريطة الطريق اللازمة لتطبيقها، ونجاحها. وينبغي تعاون كافة مؤسسات المجتمع الثقافية والتعليمية، والدينية والشبابية. فمثل هذه المشكلات على غرار العنف تستلزم للتعاطي معها، جهدا جماعيا، مُنظما لمؤسسات الدولة. أما ترك هذه الظواهر، دون ملاحقة بحثية، فهو الخطر بعينه.
نسأل الله السلامة لمصر.