كيف تتحول الضحية إلى جلاد؟ “طل الملوحي” نموذجا
اتهمها نظام الأسد بالتجسس، وأصبح لقبها جاسوسة، وبعد الحرية لم يفارقها اللقب فقد أطلقه عليها “الثوار”؛ لأنّها جاسوسة للنظام!

أخيرًا جاءت الحريّة لتطلق سراح الكثيرين من سجون الأسد، ومن بينها سجناء “عدرا”، الذي كان بالأصل مستشفى بناه ياسر عرفات عام1967، وحوّله حافظ الأسد إلى سجن، كانت طل الملوحي موجودة فيه تقضي مدة الحكم عليها.
اعتقلت “المُدونة” طل الملوحي عام 2009 وكانت في الثامنة عشر من عمرها بتهمة التجسس لصالح دولة أجنبية، وحكم عليها بالسجن خمس سنوات عام 2011 بداية الثورة السورية. صرّح المحامي أنور البني عام 2013 أن محكمة أمن الدولة العليا أصدرت قرارًا بإطلاق سراحها خلال أسبوعين من تاريخ القرار، لكن ذلك لم يحدث!
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمآلات الدولة القومية في الغرب
أزمة الكتابة الدينية في بلادنا
عندما يستسلم العالَم للتطرف
الواقع الثابت هو أن طل الملوحي كانت -على صغر سنها- تنتقد السلطات السورية في مدونتها، وتدعم القضية الفلسطينية، ولم يكن هناك أيّ دليل على تعاونها مع جهات أجنبية، لكن نظام الأسد الذي قام على تكميم الأفواه وجعل الشعب -بقوة القتل والتعذيب- يعيش خائفًا وخانعًا طيلة خمسة عقود لم يستطع استيعاب فكرة خروج صوت أحد ينتقده، أو يبدي رأيًا مخالفًا للسائد بين القطيع.
مطالبات محلية وعالمية بالإفراج عنها
عام 2010 وقّع أكثر من 4000 شخص بيانًا يطالب بالإفراج عن طل، وأسهمت منظمات حقوق الإنسان بالمطالبة بحريّتها مما جعل الضوء يُسلّط على قضيتها عالميًا، وسعت تلك المنظمات للضغط على النظام السوري من دون جدوى.
انتشرت شائعات بعد ذلك تقول إن طل ماتت في المعتقل، واحتفظ النظام بجثتها، فقد كان من عادته تسليم هويات المعتقلين إلى أهاليهم، وإخبارهم بأنهم ماتوا من دون تسليمهم الجثمان، لأنهم اعتادوا دفن الموتى تحت التعذيب في مقابر جماعية.
بعد أربعة عشر عامًا في السجن خرجت طل الملوحي إلى الحياة، وأصبحت حرّة!
لكن ما معنى الحرية الآن وقد تجاوزت الثلاثين من عمرها؟ زهرة العمر والنشاط، والدراسة، وصناعة المستقبل. هذه السنوات التي تبني فيها المرأة مستقبلها وأسرتها، قضتها الفتاة داخل السجن بين المجرمين، والقتلة، والعاهرات.
ما بعد الحريّة
بعد خروج طل من السجن أثيرت حولها زوبعة في “السوشال ميديا” تتهمها بأنها عميلة للنظام، هكذا بكلّ بساطة، تحوّلت الفتاة البريئة التي قضت عمرها في المعتقل، ومن ثم أحيلت إلى السجن من أجل رسالة كتبتها على مدونتها عام 2006 على موقع النادي السوري الإلكتروني تطالب بشار الأسد فيها بتنفيذ وعوده المتعلقة بالإصلاح السياسي، والتحول الديمقراطي، والقضاء على الفساد، تحوّلت إلى عميلة للنظام!
احتجزت طل الملوحي لأشهر عدة بمعزل عن العالم، ولم يسمح لعائلتها بزيارتها. كان الهدف من احتجازها في زنزانة منفردة الضغط النفسي الممنهج الذي تمارسه المخابرات السورية عادة على المعتقلين قبل التحقيق معهم، وكانت تهمتها في البداية تقويض الأمن الوطني! التهمة المشابهة لوهن نفسية الأمة التي اعتقل آلاف الشباب السوري في بداية الثورة بسببها.
كيف تتحول إلى جلاد
في حوار أجراه تلفزيون سوريا مع طل الملوحي قالت: “أنا لم أكن مسجونة مع السياسيات لأتجسس عليهنّ، بل كنت مسجونة في قسم الأموال العامة. نعم كنت أشتكي على زميلاتي للسجّان، فقد كنّ يضربنني، ويقمن بإهانتي وأنا لن أسكت على ذلك”. تبدو حجة طل ضعيفة وغير مقنعة للكثيرين، خاصة الفتيات المعتقلات معها اللواتي أكدن عمالتها للنظام عن طريق كتابة تقارير بهنّ داخل سجن عدرا. إذن اتّهم النظام طل بالتجسس، وأصبح لقبها جاسوسة، وبعد الحرية لم يفارقها اللقب، فقد أطلقه عليها “الثوار” هذه المرة، لأنها جاسوسة للنظام.
تتبع الأنظمة القمعية في العالم أجمع سياسة التهجين بتحويل معارضيها إلى مؤيدين. خارج السجون تقوم المخابرات بتوريط الشخص بقضية مالية، أو أخلاقية ثم تنقذه منها فتصبح السلطة المسيح المخلّص، وبذلك يتغيّر ولاؤه بسهولة من دون إحساس بتأنيب الضمير، أو الإثم.
داخل المعتقل الأمر يبدو أسهل بكثير فالتعذيب الجسدي والتهديد بالاغتصاب أو القيام به فعلًا كافٍ لإغراق المعتقل بإحساس رهيب بالذل والإهانة والدونية، ذلك الشعور الذي يمكنه أن يُحدث ردّة فعل رافضة لأفكار آمن بها. ليس كل المعتقلين بسوية فكرية، ونفسية، وجسدية، واحدة. قلائل هؤلاء الذين استطاعوا الخروج من المعتقل أسوياء ومحافظين على قواهم العقلية، ونسبة كبيرة منهم تفقد ذاكرتها ومنطقها، وتنسى لماذا دخلت المعتقل؟
“طل” تعرضت داخل المعتقل للكثير من الضغوطات النفسية، والتعذيب، والإهانات حتى من زميلاتها في السجن، ما دفعها لتغيير سلوكها المسالم والبدء بالهجوم بدل تلقي الضربات والصمت على الإهانة.
لا نستطيع لوم طل وتجريمها بهذه البساطة، وإقصائها عن الحياة، كما لا يحق لنا أن نجعل منها أيقونة للثورة، فالخطأ الذي ارتكبته وجُرّمت به، والتهمة التي التصقت بها، ليست المسؤولة الأولى عنها، بل النظام القمعي الذي مارس عليها كل وسائل العنف والتحقير بدءًا من عزلها بزنزانة منفردة، وانتهاءً بالاحتفاظ بها في السجن على الرغم من قرار المحكمة بإطلاق سراحها.
المسؤول عن تحول هذه التهمة إلى حقيقة
هذا يقودنا ببساطة إلى السؤال عن معتقلي الرأي الآخرين، من العقول المفكرة، أطباء، ومهندسين، وعلماء.
لقد حرص نظام الأسد على تفريغ الدولة من هذه الطاقات ليبقي على المؤيدين، والخائفين، والخانعين لحكمه، الذين يستطيع السيطرة عليهم وإفراغ عقولهم من أيّ فكرة سوى ضرورة وحتمية بقائه في السلطة. إفراغ الدولة من كوادرها كان مدروسًا وممنهجًا، وله مبرراته لدى النظام.
الحكام المصابون بلوثة العظمة والعته يعتقدون أنهم آلهة، ويدركون أن التطور العلمي الذي تنتجه العقول المفكرة ستكون ثماره السمّ الذي سيتجرعونه رغمًا عنهم، لذا هم حريصون على ألوهيتهم بإبقاء البلاد على وضعية الخضوع المطلق، وقتل كلّ بادرة تنبئ بتفتح عقلي لدى الشعب.
ونتيجة لتلك السياسة القمعية استطاع المعتوه بشار الأسد البقاء على كرسي الرئاسة أربعة وعشرين عامًا.