مشاهد من السودان الجريح

أسقطت الثورة عمر البشير ونظامه الاستبدادي لكن ما خلَّفه النظام من إرث كان ثقيلا

جنود من الجيش السوداني يحتفلون بتحرير مصفاة نفط (رويترز)

 

بمقدار ما شهد السودان من أحداث وتغييرات مهمة بدأت منذ الثورة في ديسمبر/كانون الأول 2018، كان ما بعد ذلك عنيفًا.

أسقطت الثورة السودانية عمر البشير ونظامه الاستبدادي، لكن ما خلَّفه النظام من إرث كان ثقيلًا.

صراعات وأزمات كبرى شهدها التاريخ السوداني الحديث، لكن ما جرى منذ إبريل/نيسان 2023 من حرب داخلية كان هو الأقسى والأصعب.

تحوَّل البلد العربي المهم إلى ساحة للقوى الأقليمية، ومسرح مفتوح لحرب مستمرة لا نهاية لها.

غرقت أحلام التغيير الديمقراطي وسط أصوات المدافع، وأُجهض الحلم الذي دفع فيه السودانيون ثمنًا غاليًا إلى حين.

المشاهد السودانية تثير أسئلة لا حصر لها، وتُبقي حلم التحول الديمقراطي رهنًا بتدخلات دولية وإقليمية بعد أن غاب الصوت الشعبي تحت وطأة الحرب المؤسفة.

من يحارب من؟ ومن ينتصر في نهاية المطاف؟

لا إجابات حاسمة حتى الآن!

القوى الداخلية في السودان

في طريق عودة الاستقرار وآمال انتهاء الحرب في السودان مشاهد معقدة، وحرب لا تضع أوزارها منذ نحو 20 شهرًا.

لم يتمكن الطرفان المتحاربان من الحسم النهائي، فالجيش النظامي بقيادة عبد الفتاح البرهان يرفع شعار “لا حوار قبل النصر على ميليشيات حميدتي والدعم السريع”.

مثل كثير من الأنظمة في منطقتنا، للجيش السوداني نفوذ واسع وكبير داخل الدولة، وهو الذي بيده السلاح والطيران الحربي والمخزون العسكري.

في المقابل، فإن قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي) تتبع تكتيكات حرب المدن، بما يصعّب من مهمة أي جيش نظامي في حسم الحرب بشكل كامل ونهائي.

معارك مدمرة يدفع ثمنها السودان وشعبه بلا أمل في نهاية قريبة.

في الدمار الذي شهده السودان كانت قوى الثورة السودانية ضحية جديدة ومؤكدة.

غاب الصوت المدني صاحب الشرعية الشعبية عندما ارتفعت أصوات الطائرات الحربية، وبدت قوى الثورة غير قادرة على الضغط من أجل إنهاء الحرب والعودة إلى المسار الديمقراطي.

والمثير للأسى أن الحسم العسكري -حتى الآن على الأقل- يبدو أنه ليس قريبًا، ويزيد من صعوبة الوصول إليه تدخلات دولية وإقليمية واسعة لها مصالح مؤكدة في هذا البلد الجريح.

قوى عربية ودولية

في السودان قوى عالمية لم تساعد في إنهاء الحرب بقدر ما فاقمت آثارها.

لم تعد الأزمة السودانية صراعًا داخليًّا فقط، بل تحولت إلى ساحة تتشابك فيها المصالح الإقليمية والدولية.

الدول العربية من جانبها لم تتوحد على دعم أحد الطرفين، ولم تنجح في وقف الاقتتال.

الموقف المصري الرسمي والمعلن حتى الآن هو دعم الجيش السوداني بشكل واضح، فالقاهرة ترى أن استقرار السودان جزء من أمنها القومي، والمخاوف المصرية من سيطرة قوات الدعم السريع على السودان -بما لها من علاقات وامتدادات بأطراف إقليمية قد تتعارض مع مصالح القاهرة- بدت غير خفية.

الدول العربية الخليجية انقسمت مواقفها بين داعم للجيش السوداني بقيادة البرهان، ومساند لقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، أو محاولات التهدئة والوصول إلى حل سياسي للأزمة المتفجرة منذ نحو 20 شهرًا.

تشتتت الجهود باختلاف المصالح الاقتصادية والأمنية، فدفع السودان ثمن الغياب العربي.

إقليميًّا، بدت تركيا متحفظة في دعم أحد الطرفين، وسعت بدون ضجة للوصول إلى حل سياسي، لكن غياب دور أمريكي فاعل -رغم محاولات متحفظة- صعَّب من احتمال أن تهدأ الحرب ويبدأ الحوار.

ظل الدور الدولي والإقليمي مشوشًا، لا سيما أن الدعم المستمر للطرفين المتحاربين يزيد من تعقيد الأزمة بدلًا من حلها، ويمد في أمد النزاع المتواصل، ولا يبشر بانتهاء قريب للقتال الكارثي.

دون تدخُّل عربي جاد ومؤثر، لا أمل في إنهاء الكابوس السوداني قريبًا، وفي دعم مالي وعسكري مصري وسعودي للجيش السوداني النظامي ما يحسم الحرب سريعًا، ويعجل بسقوط ميليشيات حميدتي.

أما الثبات في المكان دون فعل حقيقي فمعناه استمرار الاقتتال، ليدفع السودان مزيدًا من الأثمان في حرب ليس فيها منتصر حتى هذه اللحظة.

حل سياسي أم عسكري؟

في ظل المشهد الصعب والمرتبك، تبدو خيارات الحل العسكري أو السياسي معقدة.

المؤكد أنه لا طرف من الاثنين قادر-حتى الآن- على حسم الأزمة عسكريًّا.

الجيش النظامي بقيادة البرهان يملك التفوق التقليدي، لكن قوات الدعم السريع باتباعها للمناورة وفرض الأمر الواقع في المدن الكبرى صعَّبت الأمر.

استمرار النزاع يعني دمارًا أكبر للبنية التحتية، وتشريدًا لمزيد من المدنيين.

هذه حقيقة ساطعة

الدول الغربية ما زالت مقتنعة بأن الحل السياسي هو الأسلم والأكثر واقعية، ودعوات وقف إطلاق النار والدخول في حوار جاد لا تتوقف من قوى دولية كبرى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لكن حتى اللحظة ليس هناك ما يوحي بإمكانية الوصول إلى التفاوض قريبًا.

والمؤكد أن أي مسار في اتجاه المفاوضات لا يمكن أن يستثني أو يستبعد القوى المدنية التي قادت الثورة في عام 2018.

ما يمكن قوله الآن: إن الوصول إلى حل سياسي بات على الدرجة نفسها من التعقيد التي ظهرت في محاولات إنهاء الحرب بسبب غياب الدور العربي والدولي الجاد.

بتدخل دولي وعربي فاعل يمكن الوصول إلى صيغة سياسية تنهي الأزمة وتعيد السودان إلى طريق التحول الديمقراطي، لكن الغياب الكبير يوحي بأن هناك مصلحة دولية في استمرار الاقتتال السوداني.

السودان اليوم في قلب أزمة معقدة ومتعددة الأوجه: حرب بلا حسم، وتدخلات خارجية معقدة تزيد من تفاقم الأوضاع، ومعاناة إنسانية هائلة وغير مسبوقة.

المشاهد الثلاثة تعكس واقعًا مظلمًا، لكنه يحمل في طياته فرصة للتغيير.

الحل لن يكون سهلًا، لكنه يتطلب إرادة سودانية داخلية تدعمها ضغوط عربية وإقليمية ودولية.

السودان الجريح قادر على تجاوز محنته إذا توافرت الإرادة السياسية والرؤية المشتركة لإنقاذه.

السودان الطيب الذي دفع ثمنًا باهظًا من أجل الحرية والكرامة، ينتظر دعمًا جادًّا ليحقق شعبه الحلم المستحق في استقرار دائم وتحوُّل ديمقراطي يليق بهذا البلد العريق.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان