25 يناير.. ما زال الحلم باقيا

جيل السبعينيات ومن يمثله، سواء الرفيقان حمدين ومعصوم أم غيرهما، أدى ما عليه من النضال

حمدين صباحي (منصات التواصل)

كما في نهاية كل ليل تشرق شمس الصباح، كما حلم التحرر الذي يلازمنا ونحن نعايش كابوس الاحتلال والطغيان، وفي جوف التربة وتحت أرض الأوطان توجد البذور تنتظر لحظة ميلادها لتزهر وتخرج من باطن الأرض تحمل الأوراق والفروع والثمرات، هكذا يظل حلم إنبات زهور وثمار 25 يناير ثورتنا التي لم تكتمل، ومهما تصورنا أن ليلها طال سيأتي الموعد الجديد لإنباتها وازدهار ثمارها، تلك حكمة التاريخ وأقدار الطبيعة والحياة.

أحلام بعيدة

نعم تباعدت الأحلام، وتبددت أهداف العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وتاهت في دروب 14 عاما من التيه في ظل عجز طال الثوار، فأصابنا ما يصيب الحلم في لحظات الانكسار، فغربت منهم الكثير بلاد الغربة، وغيبت آخرين في داخل السجون، ورحل من رحل شهيدا أو مكلوما بحرقة التيه، وتشتت الرفاق وبعدت الأهداف، إلا أنه ما زال هناك من يبحث عن بزوغ الفجر الجديد، ما زال في بقايا يناير المنهكة والمهدرة كلمة بقيت في قلب صبي صغير كان يحبو منذ 14 عاما، ويردد وراء أبيه وشقيقه “عيش..حرية..عدالة اجتماعية”، وأنارت في صدره معنى الكرامة الإنسانية.

لا يفارق الحلم أصحابه مهما بلغ بهم الانكسار والحزن مبلغه، ولا تقاس قوة الحلم بالواقعية في الحياة، فالحلم دائما أقوى من الواقع، وبلا أحلام لا تتقدم الإنسانية، هكذا دروس الخلق والطبيعة وأقدار الله، من كان منا يصدّق صبيحة ذلك اليوم البعيد أن الحلم قريب، من كان يصدّق 100 شاب على أطراف ميدان التحرير في حلمهم بتغيير نظام استقر واستبد وتمكن من السيطرة، وتملَّكه الغرور بأن غدا له ولا رادَّ لقدره، وفي غضون أيام ثلاثة، يصبح المئات المبعثرون في أماكن عدة ملايين تتدفق مثل نهر النيل إلى الميادين في كل محافظات مصر، ويفيض النهر بالبشر ليعيد بهاء الوطن.

نعم، الآن تفصلنا عن تلك اللحظة مئات بل آلاف من الأخطاء والخطايا، تفصلنا عنها أطماع نخبة استسهلت الطريق واختصرته فبعُد مئات الأميال، وطليعة غرَّتها مكاسب ضئيلة وعابرة فنكست بالأهداف الكبرى، بل وشعب تصوَّر أن الحرية تأتي بلا تضحيات، وأن الأيام الثمانية عشر كفيلة بتحويل حياته كما حوّل مجرى النيل، لكنه لم يتذكر معارك التحويل، وقد يظن أحدكم أنني ما زلت أحلم، فالواقع قد تغيَّر كثيرا عما كان في ذلك التاريخ، بل قد يسأل: وأين من كانوا في الميادين؟ ألا ترى كيف تبعثروا وصار الكثير منهم بقايا؟ وهو محق في قوله، فذلك هو الواقع الذي يراه الكثيرون، ولكن لا يراه أصحاب الأحلام في قلوبهم والمتمسكون بالأمل ومن لديهم يقين بانتصار الحلم والحق، أن الإيمان وعقيدة النصر تصنع المعجزات، ولنا في غزة وطوفان الأقصى خير مثال.

نصيبي من الخطأ

تلك الكلمات التي انتشرت تملأ الفضاء الإلكتروني عن يناير الثورة منذ أيام بين لقطات منها أو كلمات حنين، أو تباهٍ من المشاركين فيها عن أحداثها ووقائع تلك المشاركات تعكس شوقا إلى أهداف يناير، وتجذرها في هؤلاء الذين شاركوا فيها، نعم قد يكون نوعا من الحنين، ومجرد استذكار ممزوج بالحزن والألم.

لكنه يقول إن هناك بقية لهذا الحلم وسيكتمل بالتطهر من الخطايا، وقد استشعر السفير معصوم مرزوق -أحد القلائل الذين يملكون قدرة التجاوز والتسامح- ذلك، فقال عبر إحدى تدويناته إنه يمتلك القدرة على الاعتذار عن أخطائه ويقبل بالنقد الذاتي لمشواره مع الثورة، ولحقه حمدين صباحي في حلقات مسجلة بدأ بثها أمس على إحدى المنصات الإلكترونية بعنوان “نصيبي من الخطأ”. ورغم إيماني أن جيل السبعينيات ومن يمثله -سواء الرفيقان حمدين ومعصوم أم غيرهما- قد أدى ما عليه من النضال بصوابه وأخطائه فإنها بداية جيدة في ظل غياب جيلَي الثمانينيات والتسعينيات عن الساحة السياسية، أما جيل يناير أو الألفية الجديدة فما زال بعضه يبحث عن قائد، البعض الآخر إما التهمه اليأس والاكتئاب، أو تعلق بأوهام الهروب والنجاة الفردية.

“نصيبي من الخطأ” ينبغي أن يصبح شعار الحال لاستكمال الحلم مهما كان ذلك الخطأ، سواء من يراه خطيئة، أو من يَعُده حسن نية، ومن يتصوره سوء تقدير، لا يهم الآن تقديري أو تقديرك، المهم ألا نظل في دائرة اتهام بعضنا بعضا، أو الملامة والمسؤولية، فإذا استمر هذا الحال فستظل الأحوال تسوء أكثر فأكثر. كنت قد كتبت في إحدى مناسبات يناير، وفي هذا المكان نفسه، مقالا بعنوان “أما آن للكبار أن يعتزلوا؟”، ووجهت ندائي إلى عدد منهم، بينهم حمدين صباحي والسفير معصوم، وربما في عام آخر كتبت عن غياب جيلَي الثمانينيات والتسعينيات تحت سيطرة الجيل السابق لهما، الآن حان وقت نصيبي من الخطأ أو التطهر من خطايانا منذ يناير حتى الآن، ويشمل هذا كل من شارك في يناير إذا كنا نبحث عن بقية الحلم لنستكمله.

شجاعة مطلوبة

إن الشجاعة المطلوبة في كل أطياف يناير وكل أجيالها نقطة مهمة لإنقاذ ما تبقى من أحلامها وأهدافها، شجاعة التطهر والاعتراف بالخطأ، فقد طالت الآلام ولم نعد نحتمل مزيدا من الألم يتراكم يوما بعد آخر، ألا تكفي سنوات عمرنا التي تضيع بين الزنازين وفي قبو صغير لا يتسع للنوم؟ ألا تكفي سنوات من العمر تضيع في متاهات الغربة والسفر المؤلم؟

من منا كان يتصور الحال هكذا ونحن نطير في سماء مصر بقلوبنا وأحلامنا؟ من كان يتصور أن الرفاق الذين اقتسموا الماء وكسرة الخبز يصبحون في حالهم الآن؟ إذا كانت وحدتنا فرض عين في يناير، فالوحدة الآن فرض وجهاد، جهاد للنفس التي طمعت وللنفس التي حقدت وكرهت. إن صيحة الألم في قلوب الغائبين والمحبوسين تفرض علينا هذا النضال، ليس فقط لأجل هؤلاء وما يعانونه ولكن لأجل مستقبل أولادنا، وهؤلاء الذين لا يزالون حتى اللحظة محرومين من آبائهم وأبنائهم.

لم يعد يكفينا التغني بما كان وكنا عليه في تلك الأيام البعيدة من بطولة أو تضحية، وأدرك أن الكثيرين ضحوا بالكثير ولكن ماذا صار إليه حلم يناير؟ لا أريد أن يصبح ندما إن لم يكن قد أصبح، فهل نتغنى به كنوع من الألم أو البكاء الكامن في عمق الكلمات؟ أم إننا بالفعل نتغنى شرفا وكرامة المشاركة، إذا كان كذلك فليكن سؤالنا: ماذا حققنا؟ وهل نستطيع أن نناضل من أجل استكمال الحلم أم سنترك هذا لأجيال قادمة؟ فلا بد من اكتمال حلم يناير مهما طال ليل انكساره، فليبحث كل منا ليس عن نصيبه من الخطأ فقط، ولكن عن نصيبه أيضا في تحقيق بقية حلم يناير.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان