نتنياهو يمزق نسيج المجتمع الإسرائيلي

في حفل تسليم الأسيرات إلى الصليب الأحمر، بدا للجميع في إسرائيل أن حماس ما زالت تسيطر على إدارة القطاع

أهالي غزة في مشهد تسليم الأسيرات الإسرائيليات الأربع (الفرنسية)

درجت الدعاية الصهيونية على أن دولة إسرائيل هي الملاذ الآمن لليهود إذا تعرضوا لعداء السامية في الشتات، وهي أرض اللبن والعسل، ودوحة الأمن والديمقراطية في الشرق الهمجي.
وجاء السابع من أكتوبر لينقض الرواية الصهيونية ويبعثر أوراقها. فلم تمر بالدولة الأسرائيلية منذ تأسيسها في سنة 1948 أزمة أشد من الناتجة عن هجوم السابع من أكتوبر، ولم يقع المجتمع الإسرائيلي في محنة خلال الحروب التي خاضها مع دول لها جيوش جرارة أكبر من محنته في طوفان الأقصى، ولم يتعرض أمن وثقة المجتمع الإسرائيلي في جيشه الذي ظن أنه لا يقهر لامتحان حقيقي إلا يوم السابع من أكتوبر، وما أصيبت تلك الثقة بشرخ أعمق من الذي وقع يوم السابع من أكتوبر.
ولأول مرة في تاريخها، تُهاجَم إسرائيل من أطرافها الأربعة في آن واحد: من المقاومة الفلسطينية في الغرب، ومن حزب الله والمقاومة الإسلامية في الشمال، ومن إيران في الشرق، ومن جماعة الحوثي اليمنية في أقصى الجنوب. كل ذلك، وما يسمى “جيش الدفاع” الإسرائيلي عاجز عن حماية الدولة وتأمين المجتمع.

المجتمع الإسرائيلي يفقد الثقة في الجيش

لم تحظ مؤسسة إسرائيلية بثقة المجتمع الإسرائيلي أكثر من مؤسسة الجيش، وما نال الاحترام والثقة والتقدير إلى حد التقديس داخل المجتمع الإسرائيلي إلا “جيش الدفاع”، فهو مصدر الأمن والأمان وسط محيط مضطرب.
وجاء هجوم المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر فكشف حقيقة الجيش الذي لا يقهر، وعرى الروح القتالية للجنود الذين ظهروا بروح معنوية منهارة. يقول رفائيل كوهين، مدير برنامج الاستراتيجية والعقيدة بمشروع القوات الجوية التابع لمؤسسة راند البحثية العريقة في الولايات المتحدة، إن “هجوم حماس هز العلاقة بين الإسرائيليين والجيش من جذورها”.

ففي ذلك الصباح، فشل جيش إسرائيل ليس فقط في حماية شعب إسرائيل، بل فشل حتى في حماية نفسه من القتل والأسر، حيث قتل ما لا يقل عن 274 جنديًا إسرائيليًا في ثكناتهم، وأسر عشرات من الضباط والجنود من داخل دباباتهم. وعلى مدار صباح واحد، حطمت حماس شعور الإسرائيليين بالأمن، وحطمت ثقتهم في جيش الدفاع الذي لا يقهر.

وتراجعت ثقة الإسرائيليين في الجيش من 90% في بداية الطوفان، إلى 64% بعد 15 شهرا من الحرب، وهي أدنى نسبة منذ قيام إسرائيل قبل 75 عاماً، وفق استطلاع معهد الأمن القومي الإسرائيلي. وفي استطلاع آخر أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، تراجعت نسبة المؤيدين للحرب على غزة والضغط العسكري لإطلاق سراح الأسرى من 87%، إلى 23% قبيل توقيع نتنياهو صفقة تبادل الأسرى سلميا. وأكد 58% من الإسرائيليين أن صفقة شاملة لتحرير الأسرى وإنهاء تام للحرب هي الضمان الوحيد لإطلاق سراح هؤلاء الأسرى.

فقدان ثقة المجتمع الإسرائيلي في جيشه، كشفتها شهادة رئيس الأركان، هرتسي هاليفي، الذي أعلن عن تقديم استقالته في 6 مارس القادم، التي اعترف فيها بأن الجيش الإسرائيلي فشل “فشلا فظيعا” في الدفاع عن إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، وكشف عن أن الدولة دفعت ثمناً باهظاً لذلك، وأن إسرائيل تكبدت خسائر فادحة بالأرواح، وأن الحرب تركت جروحاً وندوباً لدى كثير من الجنود وعائلاتهم.

المجتمع يفقد الثقة في الحكومة

لم يجمع المجتمع الإسرائيلي، المنقسم بين الحريديم المتدين والعلمانيين الملحدين والأشكناز المدللين والشرقيين المنبوذين، على الاحتجاج على قيادته في وقت الحرب إلا في معركة طوفان الأقصى، ولم يتعرض زعيم إسرائيلي للاحتجاج الجماهيري في شوارع تل أبيب وأمام وزارة الدفاع وفي وقت الحرب والاتهام بتدمير الدولة ودفع المجتمع نحو حرب أهلية والطعن في ولائه لإسرائيل إلا رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو. وكشف رئيس الشاباك السابق، ناداف أرغمان عن أزمة ثقة بين الإسرائيلين وبين حكومة نتنياهو، واتهمه بأنه لا يعمل لأمن إسرائيل وإنما لاستمرار حكمه والحفاظ على الائتلاف الحكومي مع اليمين المتطرف على حساب أمن الدولة والمواطن الإسرائيلي.

واتهم مدير برنامج الصمود الوطني في معهد السياسات والإستراتيجية بجامعة رايخمان ليئور أكرمان، نتنياهو، بعدم الولاء وقال إنه لن يغادر السلطة حتى يدمر دولة إسرائيل. وفي مقاله بصحيفة معاريف اتهم الحكومة ورئيسها بالمسؤولية عن تدمير المجتمع الإسرائيلي ومصالحه الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقال إنه بسبب نتنياهو لن تكون هناك دولة، ولن يكون هناك شعب إسرائيلي موحد، ولا تكنولوجيا فائقة، ولا أطباء وعلماء ورجال أعمال، ولم يتبق الكثير لتدميره.

وفي معرض هجومه على نتنياهو، كشف أكرمان، من حيث لا يقصد، عن واقع المجتمع الإسرئيلي المتردي في كل القطاعات، وقال إنه دمر النظام القضائي، والإعلام، والاقتصاد، وأنظمة التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، والأسوأ من ذلك كله، هو فشل الأمن في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولم يتبق سوى بضع خطوات صغيرة لإكمال المهمة، لتدمير الديمقراطية وتأسيس البيبية، نسبة إلى بيبي نتنياهو، كنوع جديد من أنظمة الحكم في إسرائيل. وأكد أكرمان أن عضوا بارزا في قيادة حزب الليكود الحاكم أخبره أن نتنياهو لن يغادر السلطة حتى يدمر أركان البلد بأكمله.

إسرائيل لم تعد أرض اللبن والعسل

شهد الاقتصاد الإسرائيلي منذ تسعينيات القرن الماضي عصرا من الازدهار والرفاه الاقتصادي بعد اتفاق أوسلو وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من المواجهة المباشرة والتحرر من أعباء وتكاليف احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وإلقائها على كاهل السلطة الفلسطينية وتمهييد الطريق أمام إسرائيل للتطبيع المجاني مع دول عربية حزمة واحدة، ولإدماج اقتصادها باقتصاديات الدول المحيطة وتوسيع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية على مستوى الإقليم والعالم. وانعكس ذلك على رفاهية المواطن الإسرائيلي ومستوي معيشته الإقتصادية، وزاد من جاذبية إسرائيل للاستثمارات الخارجية.

وفجأة ضرب طوفان الأقصى الأمن وعقيدة الردع العسكرية الإسرائيلية في مقتل. وتلقت صدمة عميقة بعد تورطها في حرب طويلة وعلى جبهات متعددة، وكان يمكن تجنبها بتوقيع اتفاق تبادل أسرى في اليوم التالي للسابع من أكتوبر، وشكل سببا لصدمة اقتصادية وتداعيات غير مسبوقة على اقتصاد يعجز الكيان عن الإحاطة بأبعادها أو التعاطي معها. فأصيبت قطاعات كاملة بالشلل، وخرجت رؤوس أموال أجنبية بحثا عن ملاذات آمنة.

وصرح محافظ بنك إسرائيل أمير يارون في 30 مايو/ أيار الماضي بأن تكلفة الحرب على غزة حتى نهاية 2024 ستصل إلى 73 مليار دولار أمريكي، وعبر عن ذلك وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بقوله إنهم يخوضون الحرب الأطول والأكثر تكلفة منذ نشأة الدولة. واليوم، يعاني الإسرائيلي من الخوف وانعدام الأمن، والتجنيد في حرب بلا أفق، والحرمان من الرفاهية، والنبذة والمطاردة بجرائم الحرب في الدول التي يفكرون في الهجرة إليها.

صدمة في المجتمع الإسرائيلي بعد وقف إطلاق النار

ظهور مقاتلي المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عقب دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة وإسرائيل حيز التنفيذ يوم الأحد 19 يناير/كانون الثاني الجاري أصاب الإسرائيليين بالصدمة، وزعزع الثقة المهتزة منذ السابع من أكتوبر في الجيش أكثر وأكثر، وتأكد لكثير منهم أن نتنياهو والمتحدث باسم الجيش، هجاري كانا يكذبان عليهم من خلال الإعلان عن القضاء على معظم قوات حماس في عموم قطاع غزة، ونما شعور قوي لدى كثير من الإسرائيليين باحتمال تكرار المقاومة الفلسطينية للهجوم على مستوطنات غلاف غزة وتكرار المأساة.

في حفل تسليم الأسيرات إلى الصليب الأحمر، بدا للجميع في إسرائيل أن حماس ما زالت تسيطر على إدارة القطاع، وظهر العشرات من المقاتلين الملثمين من كتائب القسام بأقنعتهم السوداء وعصابات الرأس الخضراء وهم يركبون سيارات رباعية الدفع حديثة وفارهة، بألوان بيضاء ناصعة، وكأنها وصلت للتو من اليابان، والإسرائيليون يسألون: أين خزنت تلك السيارات الحديثة، ومن أين أتت ومتى دخلت للقطاع، وكيف حصلت عليها حماس؟! والسؤال الأهم هو، كيف وصلت إلى غزة وأين كان جيش الدفاع الإسرائيلي الذي يحاصر القطاع برًا وبحرًا وجوًا ويدمر الحجر والشجر والبشر والمعدات والمركبات والسيارات منذ سنة وثلاثة شهور؟! وهو سؤال استنكاري كاشف عن فقدان ثقة المواطن الإسرائيلي في جيشه وسخريته من قياداته وحديث تلك القيادات عن سحقها لحركة حماس وتقويض قدراتها.

الصحفي الصهيوني چاي بيخور، عبر عن هول الصدمة داخل إسرائيل الناتجة عن ظهور أعضاء حركة حماس وتأثيره على الإسرئيلي الذي فقد الشعور بالأمن، وفقد الثقة في الحكومة والجيش الذي لا يقهر بقوله: إن شرطة حماس وقواتها العسكرية تنتشر في كافة أنحاء قطاع غزة، ويتم استقبالهم كأبطال، ويبدو الجميع بملابس جميلة، وسيارات جديدة، ومنازل قائمة، حتى ربما لم تكن هناك حرب، وكانت مجرد كذبة؟!

ويسأل بيخور الإسرائيليين، هل تشاهدون “اليوم التالي” الشهير، يقصد ما كان يروج له نتنياهو عن اليوم التالي لغزة خالية من قوات حماس. ويسخر بيخور بقوله: إن حماس عادت وعاد معها كل شيء، ويتسائل بسخرية مرة: “متى يغزون الغلاف؟! ويقرر أنه لن يبق دقيقة واحدة في الغلاف، لأن الانتقام من اليهود على يد المقاومة في المرة القادمة سيكون فظيعًا.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان