أين أوسلو.. ولماذا مخيم جنين؟!
المثير للجدل هو الدور الذي لعبته السلطة الفلسطينية من خلال انسحاب أجهزتها الأمنية من المخيم قبل العملية الإسرائيلية

يتساءل الكثيرون اليوم، ماذا تبقى من اتفاقية أوسلو؟
فمنذ توقيع الاتفاقية وحتى يومنا هذا، بقي الاحتلال يلقي بظلاله على الضفة الغربية، تحت تقسيمات ومسميات متعددة. لتدرك أن السلام المزعوم لم يكن إلا مساحيق تجمل شكل استعمار فرض نفسه بالقوة على الأرض بأشكال متعددة، فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تتوقف عن إحكام سيطرتها على كافة مناحي وشؤون الضفة من خلال توسيع المستوطنات وهدم المنازل واقتحام القرى، إضافة إلى التساهل مع جرائم المستوطنين الإرهابية التي تستهدف السكان الفلسطينيين العزل.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsإعادة تدوير القول الغربي!
لماذا سفير لأمريكا في إسرائيل؟!
نادر فرجاني.. تذكر مستحق في أربعينيته
ومع فرض وقف إطلاق النار في غزة الذي أتاح لسكان القطاع لحظة من الهدوء النسبي، وسمح لهم بالتقاط أنفاسهم بعد المجازر الأخيرة، أطل وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، بتصريح يكشف عن جوهر السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين قائلاً: “سنمحو عن الفلسطينيين الابتسامة وسيظل الصراخ”. تصريح يعكس نوايا الاحتلال الحقيقية، حيث لم يكن وقف العدوان سوى استراحة مؤقتة في مسلسل قمعٍ ممنهجٍ لا تعرف له نهاية.
وفي ظل تسارع وتيرة الاعتداءات والحصار لمناطق في الضفة الغربية وأهمها مخيم جنين، تتصاعد المخاوف بشأن مستقبل هذه المنطقة الجغرافية من فلسطين المحتلة، يترافق ذلك مع تصريحات إسرائيلية تؤكد العزم على فرض السيادة على الأراضي الفلسطينية المصنفة “ج”، التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية.
تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، إلى جانب تصريحات بنيامين نتنياهو، تعيد تسليط الضوء على المخططات الإسرائيلية طويلة الأمد التي تستهدف قلب الواقع السياسي والجغرافي للضفة الغربية، وخلق معادلة جديدة تجعل من قيام دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً.
خطوات نحو تغيير جذري
وبالعودة إلى نوفمبر الماضي، تتضح سياسة الضم والسيادة الإسرائيلية على الضفة من خلال تصريحات سموتريتش الذي أعلن بوضوح عن تعليماته لإعداد البنية التحتية لفرض “السيادة” الإسرائيلية على الضفة الغربية بحلول عام 2025 تزامناً مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، مؤكداً أن عام 2025 سيكون عام السيادة الاسرائيلية على ( يهودا والسامرة) وهو الاسم الذي تطلقه إسرائيل على الضفة الغربية.
وعلى الرغم من أن مشروع الضم ليس جديداً، فإن هذه التصريحات تعكس تسارعاً في تنفيذ استراتيجية الحكومة الإسرائيلية، إذ انتقلت من سياسات استيطانية تدريجية إلى مخطط متكامل يهدف إلى السيطرة القانونية والسياسية على الأراضي الفلسطينية.
كل الاجراءات التي تنفذها إسرائيل حالياً رغم اتفاقيات السلام التي أبرمت، تؤكد أن هذه الاتفاقيات لم تكن سوى حيلة تمنح المحتل مزيداً من الوقت لابتلاع ” ضفة العياش”، ففي يوليو 2024 صادقت الحكومة الإسرائيلية على خطط لبناء حوالي 5300 وحدة سكنية جديدة في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة، في خطوة تُعد جزءًا من حملة مكثفة لتوسيع المستوطنات في عمق الضفة، حيث تشمل هذه الخطط أيضًا إضفاء الشرعية على ثلاث بؤر استيطانية غير قانونية هي “محانيه غادي”، و”غفعات حنان”، و”كيديم عرافا”.
وإذا تم تنفيذ مخطط الضم وهو يعني السيادة الإدراية على الضفة الغربية، سيواجه الفلسطينيون سيناريوهات خطيرة منها سلب حقوقهم الأساسية والتضيق عليهم ولكن السيناريو الأقرب هو محاولة ترحيلهم إلى دول أخرى وهو الأمر الذي استنكره وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي مؤخرا مؤكداً أن التصعيد الأخير في الضفة خطير وأن الأردن لن يكون وطناً بديلا وأن فلسطين للفلسطينيين.
جنين.. نموذجاً لواقع جديد
عبر سنوات الاحتلال الطويلة، لطالما اعتبرت إسرائيل مخيمات الضفة الغربية نقطة ضعف يجهض حلم إنشاء الدولة اليهودية، فالمخيمات تعتبر قلب المقاومة الفلسطينية ورمزًا للصمود، إذ تمثل تحديًا استراتيجيًا وأمنيًا لإسرائيل، حيث تنطلق منها عمليات المقاومة وتتشكل فيها أجيال ترفض التهجير والاحتلال، مما يجعلها مصدر قلق دائم لإسرائيل، ليس فقط كخطر أمني بل كرمز حيّ للمقاومة يتجدد مع كل دم فلسطيني يراق.
ما حدث في مخيم جنين يعكس بشكل واضح الرعب الإسرائيلي، فقد نفذ الاحتلال عملية عسكرية واسعة النطاق، استخدم فيها القصف الجوي والقوات البرية الخاصة، ما أدى حتى الآن إلى استشهاد 12 فلسطينيا وإصابة 50 أخرين مع عشرات الإعتقالات، مع إجبار 3000 عائلة إلى النزوح خارج جنين، كل ذلك يترافق مع مقاومة ضارية من قبل الفصائل الفلسطينية.
وكما فعل جيش الاحتلال في غزة من تدمير للبنية التحتية، يكرر هذا الفعل في الضفة من خلال قطع الكهرباء والمياه وجرف الطرق وحصار المستشفيات، إلى جانب إقامة مراكز تحقيق ميدانية، كل ذلك بهدف دفع السكان للهجرة والقضاء على أي أمل بالحياة.
لكن الأمر المثير للجدل هو الدور الذي لعبته السلطة الفلسطينية من خلال انسحاب أجهزتها الأمنية من المخيم قبل العملية الإسرائيلية، وهو ما أثار اتهامات بالتواطؤ أو العجز. فبدلاً من حماية سكان المخيم، أصبحت السلطة أداة لإعداد الأرضية للاعتداءات الإسرائيلية، وهو ما يثير تساؤلات حول دورها السياسي في المستقبل.
ابتلاع الأرض
على المدى البعيد، يعكس مشروع الضم الإسرائيلي رفضاً كاملاً لمبدأ حل الدولتين. الضم يعني القضاء على أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة. فبدلاً من ذلك، تسعى إسرائيل إلى خلق نموذج “الدولة الواحدة” بواقع استعماري يعمل على تغيير الهوية التاريخية والقانونية للضفة الغربية. ففي المناطق التي يتم ضمها، سيتم طمس الطابع الفلسطيني بالكامل، وتحويلها إلى جزء لا يتجزأ من إسرائيل، مع عزلها عن أي ارتباط بالمناطق الفلسطينية الأخرى.
وعندما ندرك أهمية الضفة الغربية لإسرائيل قد نستوعب المخاطر التي تهدد الفلسطينيين هناك، فالضفة تمثل ركيزة أمنية للصهانية، فهي تحيط بالقدس من ثلاث جهات، ما يجعل السيطرة عليها ضرورية لإسرائيل لضمان بقاء القدس تحت سيادتها. كما أنها تتمتع بموارد اقتصادية بأراضيها الخصبة ومواردها المائية.
صمت دولي أم تواطؤ؟
رغم أن القانون الدولي يعتبر الضم جريمة حرب، فإن المجتمع الدولي لم يتخذ أي خطوات حقيقية لردع إسرائيل. إذ نجد أن الدعم الأمريكي، خاصة خلال رئاسة ترامب السابقة وقراراته الحالية بالتغاضي والعفو عن المستوطنين الإرهابيين، أعطى الضوء الأخضر للمضي قدماً في هذه السياسات.
وأمام هذا الواقع الذي يفرضه الاحتلال فإن المقاومة الفلسطينية، سواء المسلحة أو الشعبية، أصبحت الخيار الوحيد أمام الفلسطينيين للحفاظ على وجودهم.
لكن السؤال الأكبر يبقى: هل يستطيع الفلسطينيون كسر هذا المخطط الاستعماري، أم أن إسرائيل ستنجح في فرض رؤيتها؟.