غزة طوفان العودة والتاريخ خير رد على ترامب ولكن!

تمسك الفلسطينيون بأرضهم أفشل كل مخططات تهجيرهم (الفرنسية)

كانت وسائل الإعلام تنقل للعالم انتظار فلسطينيي غزة بمئات الآلاف في العراء للعودة إلى شمال القطاع، ولو كانت الديار مدمرة وبلا مرافق، لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يتورع عن التصريح بطلب ما سمّاه “تحريك” سكان غزة إلى مصر والأردن، وتشجيعهم على “الهجرة طوعا”. وحمدًا لله أن صدر عن وزارتي الخارجية بالبلدين رفض لمضمون التصريح.

يعيش ترامب حالة إنكار تخاصم الواقع على الأرض في غزة وإرادة الشعب الفلسطيني، الذي قاوم التطهير العرقي المصاحب لحرب الإبادة الطويلة، ودوّن صباح أمس في كتاب التاريخ طوفانا جديدا، وهو هذه المرة “طوفان العودة” إلى الشمال.

وكأن ترامب لا يريد أن ينسى “بزنس” العقارات، وهو الذي رأى غزة عند نهاية العام الأول لهذه الحرب من نافذة مقاول يتطلع إلى الأرباح، فقال: “المكان قد يكون أفضل من موناكو، ولم يستغل بعد، وكمطور عقاري أرى إمكانية أن يصبح أكثر جمالا، الطقس والمياه وأفضل موقع على البحر المتوسط”.

في كل الأحوال، يترجم تصريح الرئيس الأمريكي، عقيدة استعمارية عنصرية صهيونية استيطانية إحلالية إرهابية تعتبر وتريد فلسطين أرضا بلا شعب. عقيدة السارق القاتل، الذي لا يتوقف عن الإنكار ومحاولة إخفاء جسم الجريمة منذ 1948.

وحتى لو استخدم ترامب كلمتي “التحريك” و”الطوعي”، فنحن أمام أمنيات ونيات جريمة تهجير قسري “ترانسفير” جديد. وفي الوعي الفلسطيني جيلا بعد جيل تاريخ من التهجير القسري الخشن الدموي والدبلوماسي الناعم متعدد المحطات والمراحل، يبرز بينها 48 و1967. وبالأصل أصبح معظم سكان غزة بعد النكبة من مهجري التطهير العرقي بفعل المجازر الصهيونية: 200 ألف لاجئ يتوزعون على ثمانية مخيمات، بعد أن كان يسكن القطاع 80 ألفا فقط.

كيف أسقطت غزة اتفاقات

ومشاريع التهجير والتوطين؟

لم تقاوم غزة التهجير القسري خلال حرب الإبادة الأخيرة فقط، ولم تكن العقود الفاصلة بين نكبة 1948 واليوم خالية من مقاومته.

بل ثمة تاريخ مجيد في إسقاط مشاريع واتفاقات التهجير، تجب استعادته لإنعاش الذاكرة، ولو ببعض حلقاته. وهذا على الرغم من ظروف القطاع الاقتصادية والمعيشية البالغة الصعوبة، لشح الموارد وفرص العمل، وضعف تطور الصناعة والخدمات وانخفاض متوسط الدخل مقارنة بالضفة الغربية.

في بداية مارس/آذار 1955، أسقطت مظاهرات جماهيرية بغزة دامت خمسة أيام مشروع التوطين الأمريكي لنحو 12 ألف أسرة بمخيمات اللاجئين في شمال غرب سيناء، وذلك بعد اتفاق وقعته الحكومة المصرية ومكتب الأونروا بالشرق الأدنى، مع وعود باستصلاح مكان التوطين زراعيا ومد مياه النيل إليه، بتمويل واشنطن.

وساهمت هذه الهبة الشعبية، بين عوامل وتطورات أخرى، في إسقاط مشروع مواز للسلام بين عبد الناصر وديفيد بن غويون أول رئيس وزراء لإسرائيل، يسمى “ألفا”، برعاية وزير الخارجية الأمريكي دالاس، ثم في تحول سياسة القاهرة نحو باندونغ وعدم الانحياز والأسلحة الشرقية (التشيكية) وتأميم قناة السويس.

كما انتزعت تدريب وتسليح الفلسطينيين تحت الإدارة المصرية لغزة للتصدي للاعتداءات الإسرائيلية (كتيبة الفدائيين 141)، وإعلانا بمحاكمة المسؤولين عن ضرب المتظاهرين بالرصاص الحي واستشهاد عامل النسيج حسني بلال، وبإطلاق حرية النشر والاجتماع والإضراب، وبعدم المساس بقادة الهبة الشعبية، وإن تم النكوص عنها.

وتوثق لهذه الأيام شهادة شفوية سجلتها قبل نحو عامين للمؤرخ والكتاب الفلسطيني المقيم بالقاهرة عبد القادر ياسين، وكتابات منشورة للشاعر معين بسيسو ممثل الشيوعيين في اللجنة الوطنية العليا التي نظمت هذا الحراك الجماهيري مع الإخوان المسلمين بقيادة فتحي البلعاوي، ومستقلين بالقطاع.

من فشل البارغواي

إلى خطة الجنرالات

فصول أخرى من مشاريع الترانسفير تحت عنوان “الهجرة الطوعية” تصدت لها غزة بعد حرب 1967، وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي بعدما انسحبت القوات المصرية منها وسيناء.

هذه المرة كان اتفاق تل أبيب مع حكومات موالية لواشنطن بأمريكا اللاتينية، مثل الباراغواي تحت رئاسة الجنرال الفريدو سترويسنر وحكمه اليميني الفاشي، التي قبلت استقبال 60 ألفا على مدى أربع سنوات. لكن لم يغادر إلا بضع مئات، على الرغم من إغداق الأموال والوعود بفرص العمل والسكنى والمواطنة الكاملة. وهذا ما يرويه بالوثائق “التاريخ المنسي للتحالفات بين إسرائيل ودكتاتوريات أمريكا اللاتينية”، بموقع “أوريان 21” الإلكتروني الباريسي في 1 أكتوبر تشرين الأول 2020:

حتى بعد أوسلو ومع مقترح تبادل للأراضي بين مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية يشمل النقب، تبدد كخيال مريض مشروع آخر لتوطين نحو مليون من قطاع غزة بسيناء. ويحمل اسم الجنرال الصهيوني غيورا آيلاند، المبادر الخريف الماضي بخطة الجنرالات لجعل شمال قطاع غزة منطقة عسكرية ومنع عودة أهلها المهجرين من جنوبه.

بقيت هذه المخططات وغيرها مستحيلة التنفيذ أمام تمسك الفلسطيني بالأرض ومقاومة الاحتلال بكافة السبل. ومن يود الاستزادة يعود إلى ورقة السياسات الصادرة قبل أيام من مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان: “الإبادة والتهجير أولا: مستقبل شمال غزة في التصورات الإسرائيلية” للدكتور عزام شعث.

الإبعاد وقلق له

مبرراته هذه المرة

لكن يقلق اليوم هذا الإبعاد الجماعي لسبعين فلسطينيا محررا إلى مصر بالوجبة الثانية من تبادل الأسرى بداية الأسبوع، ومنها إلى دول أخرى، وذلك ضمن إجمالي 238 مبعدا من ألفي محرر تعد بهم المرحلة الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار.

هذا الإبعاد جرى وكأن الفعلة الاستعمارية لا تستحق اهتماما، ولا تنتهك المواد 49 و147 لاتفاقية جنيف الرابعة و 7 / د لقانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تمنع وتحظر جميعها قيام سلطة احتلال بإبعاد ضحاياه، لكونه جريمة ضد الإنسانية.

ثمة دواع للقلق والحذر، عند من تابعوا يوما بيوم تجربة الإبعاد الجماعي للمناضلين المقاومين الفلسطينيين مرتين إلى: مرج الزهور بجنوب لبنان لعام كامل بين 92 و1993، ومن كنيسة المهد برام الله 2002 بعد حصار استمر 40 يوما، ولو من خلال العمل في أقسام الأخبار العربية والخارجية بالصحف، كحال كاتب هذا المقال.

بمرج الزهور كان الإبعاد مؤقتا لنحو أربعمئة، وبشأن كنيسة القيامة 39 مبعدا ما زالوا في المنافي. وفي التجربتين، لم يكن فعل الإبعاد القسري ليمر مرور الكرام، لا فلسطينيا ولا عربيا ولا عالميا.

وترجمت عدم القبول والرفض والعمل على إعادة المبعدين مواقف رسمية للحكومات ولجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، وعند قطاعات واسعة ومتنوعة من الرأي العام، ووسائل إعلام ومنظمات غير رسمية، حتى داخل إسرائيل مثل “بتسيلم” الحقوقية.

صحيح أن إبعاد المحررين اليوم ليس السابقة الأولى في صفقة تبادل أسرى مع تل أبيب، لكن ما يدعو إلى القلق والحذر أننا أمام ما يشبه الإبعاد الجماعي الصامت، ولو جاء في إطار صفقة وقف إطلاق نار مهمة مقدرة، تعود بإيجابيات على مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني.

*

في الإبعاد هذه المرة ما يستحق الانتباه والتحسب لتكراره مستقبلا، وبأعداد أكبر، وبذات التغاضي والقبول، فيعود أخطر. ويصبح بمثابة “ترانسفير صامت”، وتطبيع مع جريمة وفق القانون الدولي. أما كلمات ترامب، ونياته وأحلامه بالاستثمار والتربح من معاناة غزة، وتبنيه مخططات الترانسفير الصهيوني، ومخاطباته لهذا الملك أو الرئيس لتسويقها، فالشعب الفلسطيني كفيل بإفشالها، مع أحرار العالم. وكم أسقط من أمثالها على مدى تاريخه النضالي!

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان