الواقع الثقافي العربي.. متلازمة الزيف والاستعراض
قص لي ناشر صديق بأسى، كيف تعاقد مضطراً مع أحد الشباب المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي طمعاً في جمهوره من المتابعين

كان الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي محقاً عندما قال وقد حل منذ عدة ليالي ضيفاً في أول أيام معرض القاهرة للكتاب: “لا يصح أن تكون العبارات المكتوبة بالعامية هي أول ما يواجه زوار المعرض، خاصة أن رسالة هذا الحدث الأهم هي الحفاظ على الفصحى”.
ورغم بداهة ما أكد عليه الشاعر التسعيني إلا أنه قد فاته أن معرض القاهرة للكتاب في دورته ال 55 ليس كمثله قبل عقدين من الزمان،” فلا أنت أنت ولا الديار ديار”، و”قد انقضت تلك السنون وأهلها.. فكأنها وكأنهم أحلام”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأزمة الكتابة الدينية في بلادنا
عندما يستسلم العالَم للتطرف
تصعيد غير مسبوق للمعارضة التركية.. لهذه الأسباب!
صحيح أن معرض القاهرة للكتاب في دورته الحالية لا يقل فيه عدد الناشرين والدول المشاركة عما كان من قبل (80 دولة مشاركة و1300 دار نشر).
ولكن لا مقارنة بين الإنتاج الثقافي المتوفر في المعرض الآن، وبين ما كان موجوداً من قبل على مستوى الكِتاب ودور النشر وعلى مستوى النخب الفكرية والثقافية والعلمية والسياسية المشاركة في الندوات والفعاليات.
وحتى لو وضعت إدارة معرض الكتاب للشاعر عبد المعطي حجازي لافتات الفصحى، وأعادت له الأماكن فـمَن يُعيد له الرفاق؟، فلقد مر زمان على معرض القاهرة الدولي للكتاب كان يجلس فيه حجازي على منصة الشعر بجانب؛ محمد مهدي الجواهري ومحمود درويش وأحمد فؤاد نجم ونزار قباني وعبد الله البردوني وفاروق شوشة وسميح القاسم وأدونيس ومحمد إبراهيم أبو سنة وعبد الوهاب البياتي وممدوح عدوان وعبد الرحمن الأبنودي، وغيرهم من عشرات الشعراء الفطاحل من المصريين والعرب.
ورغم مكانة الشعر والشعراء في معرض القاهرة للكتاب، إلا أنه لم يكن سوى محور من محاور كثيرة كان يقدمها هذا المحفل الثقافي العريض، فقد احتضن المعرض كبار الأدباء والعلماء والفنانين والسياسيين وأساتذة الجامعات والمبدعين وعلماء الدين والفلاسفة والصحفيين والإعلاميين ورجال الأعمال والشخصيات العامة، كما وجهت الدعوات لنظرائهم من الشخصيات العربية والعالمية البارزة.
وكان وجود ما سبق من أعلام في كافة المجالات إضافة إلى آلاف الإصدارات من الكتب التي تقدمها المئات من دور النشر الخاصة والرسمية كفيلاً بجذب عشرات الآلاف من المثقفين والباحثين والمبدعين غير المشاهير من كافة ربوع مصر، إضافة إلى الملايين من جمهور ورواد المعرض.
ولا مبالغة فيما سبق فقد عُد معرض القاهرة الدولي للكتاب آنذاك كأكبر معرض للكتاب في الشرق الأوسط، كما قُيم كثاني أكبر معرض في العالم بعد معرض فرانكفورت الدولي للكتاب.
ثقافة زائفة
ولكن كيف تحولت المحافل الثقافية الكبرى في الوطن العربي إلى مكان ترفيهي في القلب منه سوق استثماري لبيع روايات الهواة وكتب المؤثرين على مواقع وسائل التواصل الاجتماعي؟
في رأيي يعود تواضع وتدني مستوى الفعاليات الثقافية وقلة الكتب القيمة المنشورة حديثاً إلى تردي الواقع الثقافي نفسه، فما المعارض والفعاليات إلا نافذة معبرة عن الواقع، والواقع الثقافي بات متردياً وطارداً لمصادر المعرفة والثقافة الحقيقية، بل وينطبق عليه تماماً نص قانون “جريشام”؛ العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق.. والواقع الثقافي والإبداعي العربي يشهد بذلك، وإلا فما الذي يفسر انخفاض توزيع الإصدارات الإبداعية لصاحب جائزة نوبل الأديب العالمي نجيب محفوظ لصالح تمدد الإصدارات الورقية الخاصة بفضفضة الهواة.
ويمكن من خلال قانون “جريشام” تفسير أسباب ندرة الكتب النافعة الحديثة إلى الحد الذي يبذل فيه المثقف الواعي مجهوداً كبيراً للعثور عليها وسط أكوام من المطبوعات السطحية الزائفة، ” فكم فارس يدعى وليس بفارسٍ”.
المعرفة وآليات السوق
مع غياب المشروع الوطني وخضوع مصادر المعرفة والتثقيف لآليات السوق بهدف تحقيق الربح حيث كل شيء أصبح قابلاً للبيع والشراء، في أول الأمر شاع التضليل بـاسم الثقافة والمعرفة ثم تجاوز تجار السوق مرحلة تسليع الثقافة وتسطيحها إلى مرحلة تزييفها وترسيخ وجود المنتج المزيف، وقد أدى الأمر في النهاية إلى محاصرة ومطاردة العلماء والخبراء والمبدعين وتجفيف منابع المعرفة والثقافة الحقيقية.
وفي سبيل تحقيق الربح دون تخطيط ورقابة هناك من يخرب الواقع الثقافي عمداً، ولا يجد مانعاً من إزاحة الأعمال الإبداعية الأصلية واستبدالها بأخرى مزيفة، ويشبه ذلك من يلقي جانباً بأغنيات وأهازيج عاشت في وجدان الشعوب، ويستبدلها بما يسمى أغاني “المهرجانات”، وهي في الواقع عبارة عن ضجيج يفتقد للكلمة واللحن والصوت.
إن ادعاء المعرفة أشد خطرا من الجهل (برناردشو)، فمن الذي أقنع مؤثري وسائل التواصل باستثمار حجم المتابعات، والبدء في الطبع الورقي للخواطر والحواديت والنصائح مع اعتبارها كتب؟!
لقد أضحت قائمة “الأكثر مبيعاً” حيلة تسويقية سخيفة لمقاولي النشر لإغراء الجمهور بقراءة روايات ساذجة، تستوي فيها مهارة وثقافة الكاتب مع القارئ.
ولا يجد مقاولو الثقافة الجدد غضاضة في امتهان فكرة “حفلات التوقيع” بحيث تصبح حيلة دور النشر للحصول على اهتمام متابعي المشاهير من النشء وشباب “التيك توك” الذين يصطفون للحصول على ما تجود به قرائح المؤثرين.
ثقافة الاستعراض
من الرائع أن تذهب الأسرة العربية إلى معارض الكتاب والفعاليات الثقافية للتثقيف والترفيه، وتربية النشء على ارتياد تلك المحافل و شراء الكتب واقتنائها، الأزمة هي أن يتحول ما سبق إلى طقس احتفالي استعراضي بحت، فكما يحلو للبعض تحت وطأة ثقافة الاستعراض نشر الصور والذكريات على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، لاستعراض السعادة أو الثراء أو الرفاهية، يحلو لغيرهم استعراض الثقافة، فهم يجدون السعادة بالتدثر برداء المثقفين، واستعراض زياراتهم للفعاليات الثقافية ونشر ذلك على منصات التواصل، وهؤلاء هم الجمهور المستهدف من تجار المعرفة الزائفة.
ولقد قص لي ناشر صديق بأسى، كيف تعاقد مضطراً مع أحد الشباب المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي طمعاً في جمهوره من المتابعين، مع إقراره أن الشاب غير مثقف ولا يمتلك موهبة الكتابة، إلى الحد الذي دفعه إلى نصح الشاب؛ بإضافة الهمزات لاسمه المكتوب خطأً على صفحات التواصل التي يتابعها الملايين، وقد أصابته الصدمة في أول الأمر ثم وافق على المقابل المادي الكبير الذي طلبه الشاب، إلا أنه لم يطمئن حتى شاهد اصطفاف آلاف الشباب في معرض الكتاب أمام جناح دار النشر للحصول على نسخة من الكتاب الجديد بتوقيع المؤلف مع التقاط صورة معه، يقول الناشر مندهشاً: أمام الإقبال ومع حلول وقت الإغلاق، وضرورة إخلاء المكان، اضطررنا لحمل المؤلف قسراً من بين الجمهور.
يحكي صديقي عن المشاعر المتناقضة التي انتابته آنذاك، خليط من الدهشة والاطمئنان والسعادة والحزن.