درس «التغريبة الفلسطينية» في شمال غزة

لعل الكثير من القراء شاهدوا المسلسل التلفزيوني (التغريبة الفلسطينية) الذي تم تقديمه للمرة الأولى في شهر رمضان من العام 2004، شخصيا شاهدته أكثر من مرة، وفي كل مرة يحفر عندي المزيد من الأخاديد، ظهر المسلسل في فترة ساخنة من تاريخ القضية الفلسطينية عقب الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000 إثر اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيرئيل شارون المسجد الأقصى مع عدد كبير من المتطرفين، ومواكبا لتصاعد العمليات الاستشهادية التي أثمرت الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة، وفي وقت عانت فيه سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني حصارا إسرائيليا خانقا في المقاطعة، كل ذلك منح المسلسل مذاقا خاصا، فكان من المسلسلات الأكثر مشاهدة على المستوى العربي.
كانت ذروة المأساة التي جسدها المسلسل هي خروج الفلسطينيين من قراهم وبلداتهم التي طردتهم منها العصابات الصهيونية خلال حرب 1948، لقد كان مشهد خروجهم هائمين على وجوههم يحملون ما استطاعوا من مقتنيات بيوتهم إلى وجهات مجهولة هو أكثر المشاهد مأساوية، لا يستطيع المشاهد أمامه إلا البكاء، استقر بعض المهجرين في مخيمات جديدة داخل الأراضي الفلسطينية التي كانت لا تزال حرة مثل غزة والضفة الغربية، وهاجر البعض إلى الدول العربية المجاورة لبنان وسوريا والأردن ومصر، جسد المسلسل كل ذلك تحت عنوان التغريبة الفلسطينية.
تغريبة جديدة ولكن مؤقتة
عقب الاجتياح الإسرائيلي الأخير لقطاع غزة، بعد طوفان السابع من أكتوبر تشرين أول 2023 عاد مشهد التغريبة مجددا، واقعا لا تمثيلا، هي المشاهد نفسها، مع كثافة أكبر في الأعداد، فهناك فارق بين الواقع والتمثيل من ناحية، وهناك فارق في الكثافة السكانية بين 1948 و2023 من ناحية ثانية، انهمرت الدموع مجددا، وعادت ذكريات النكبة الأولى وتغريبتها منذرة بكابوس نكبة جديد وأكثر ألما.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأزمة الكتابة الدينية في بلادنا
عندما يستسلم العالَم للتطرف
تصعيد غير مسبوق للمعارضة التركية.. لهذه الأسباب!
معظم الفلسطينيين الحاليين لم يعيشوا نكبة 1948، لكنهم عرفوا تفاصيلها المأساوية من أبائهم وأجدادهم، وربما من أعمال فنية جسدتها مثل “التغريبة الفلسطينية” ومن الواضح أن هذا الجيل الجديد وعى درس الأباء والأجداد، وقرر أن لا يكرر مأساتهم، كان الآباء والأجداد يقفون على مشارف خيامهم ينتظرون وصول الجيوش العربية لتحررهم، فخيبت أمالهم، وكانوا يمنون أنفسهم بالعودة القريبة إلى بيوتهم وبلداتهم، وحملوا معهم مفاتيح دورهم فلم يعودوا، وماتوا في منافيهم، قرر الجيل الجديد أن لا يغادر أرضه، ومع استمرار احتفاظ الأحفاد بمفاتيح بيوت الأجداد تعبيرا عن التمسك بحق العودة، قرر الفلسطينيون أيضا تنظيم مسيرات العودة التي بدأت بشكل رمزي منذ العام 1998نحو قرية الغابسية (شرق عكا)، لتليها الجولات للقرى، والمدن المهجرة الأخرى، وليصبح تقليدا سنويا يشارك به أهالي القرى المهجرة، وأنصارهم من غير المهجرين. تتخلل المسيرة زيارات لمعالم القرى المهجرة بالإضافة لفعاليات توعوية ومؤتمرات محلية، ثم أخذت هذه المسيرات زخما أقوى عقب إعلان الرئيس ترامب في فترة رئاسته الأولى عن مشروع التطبيع الإبراهيمي، ونقل سفارة بلاده إلى القدس، فتم تنظيم مجموعة مسيرات انطلقت في كافة الأراضي الفلسطينية التاريخية وفي بعض المناطق الأخرى في العالم والمخيمات الفلسطينية في 30 مارس أذار 2018 (بالتزامن مع الذكرى ال 42 ليوم الأرض)، واستمرت حتى الـ 15 من شهر مايو / أيار، تزامنا مع الموعد المحدد لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وهو أيضا ذكرى النكبة.
صمود ضد التهجير
مع العدوان الأخير على غزة، استهدف العدو أيضا تنفيذ خططه القديمة لتهجير نصف سكان غزة، خاصة شمال القطاع الأكثر إيلاما له، ليقيم فيه مستوطنات جديدة، لكنه قوبل بموقف صلب، ورغم أن أبناء الشمال اضطروا تحت القصف الأعمى برا وجوا وبحرا إلى الخروج إلى وسط القطاع وجنوبه، وليس أكثر من ذلك، لكنهم صمدوا في مواجهة القصف على ملاجئهم الجديدة، ورفضوا الإغراءات الكثيرة لتهجيرهم، ومنحهم حياة أفضل في بلدان أخرى، وتزامن مع ذلك رفض دول الجوار أيضا وخاصة مصر والأردن لمساعي التهجير رغم الإغراءات التي قدمت لهما من عواصم الاستعمار الكبرى.
رحل بايدن بعد فشله في تنفيذ مشروعه للتهجير، وجاء ترامب مجددا كالثور الهائج، مهددا ومتوعدا الشرق الأوسط بالجحيم، ومضاعفا الدعم الأمريكي للعدوان الإسرائيلي، وإمداده بقنابل وأدوات قتل وتدمير منعها بايدن من قبل، ثم تجاوز كل ذلك ليعيد طرح مشروع التهجير بكل جلافة، معلنا أنه تحدث بالفعل مع حاكمي الأردن ومصر ليقبلا تهجير مليون فلسطيني، كان بايدن يتصور أنه يصدر أوامر ليس لها غير التنفيذ، لكنه فوجئ برفض الدولتين، كان الرفض حازما على المستويين الرسمي والشعبي، حتى أحزاب وحركات المعارضة في الدولتين نافست حكوماتها في هذا الرفض، لكن الأهم من ذلك كله هو موقف أهل غزة.
مشاهد العودة والدعم المطلوب
الرد الأبلغ على مشروع ترامب للتهجير هو مسيرات العودة الحقيقية والكثيفة لأهل الشمال، مشاهد لا تملك تجاهها إلا البكاء أيضا، لكنها دموع الفرح، فهي عكس مشاهد التغريبة الفلسطينية بعد نكبة 1948، وعكس مشاهد الهجرة إلى الوسط والجنوب التي كانت تنذر بنكبة جديدة عام 2023، نصف مليون فلسطيني زحفوا إلى مدنهم وقراهم ومخيماتهم شمال القطاع، لم ينتظروا حتى تمهيد الطرق لوسائل المواصلات، قطعوا20 كيلوا مترا على الأقدام حاملين ملابسهم وأغطيتهم وخيامهم، وبعض مستلزمات الحياة الأساسية على أكتافهم، مشاهد تعجز الدراما عن تجسيدها، لكننا نراها حية أمام أعيننا، لتغسل بعض آلام التغريبة السابقة.
أثبت الفلسطينيون مجددا خاصة أهل غزة أنهم شعب الجبارين، وهذا يدعو للفخر بهم، لكن الفخر وحده لا يطعمهم من جوع، ولا يقيهم من برد، ولا يعالجهم من إصابات، المطلوب وبشكل عاجل أن تسارع كل الحكومات والهيئات الإغاثية إلى توفير خيام عاجلة، وإمداد هؤلاء الصامدين بضرورات الحياة فورا، ويمكن إسقاط بعضها جوا توفيرا للوقت وتجنبا للتعقيدات، هذا هو واجب الوقت، وهو الحد الأدنى الذي يستر عجزنا عن دعمهم طيلة شهور الحرب.