خيري شلبي شيخ الحكائين.. كيف أنتج أدبا خالدا؟

عمل بائعاً متجولا..وترجمت أعماله للغات العالمية

خيري شلبي (منصات التواصل)

العلاقة بين الأدب والسينما علاقة وثيقة ممتدة، حيث كانت الكتب على الدوام مصدر إلهام منذ نشأة الفن السابع.

تتراءى هذه العلاقة بشكل واضح من خلال الأعمال السينمائية المقتبسة من الأدب، بدءًا من فيلم “زينب” المستوحى من رواية الدكتور محمد حسين هيكل، التي عكست بعمق صورة الحياة في الريف المصري في مطلع القرن العشرين، لترسخ هذا التداخل الآسر بين الكلمة والصورة.

وقد بلغ هذا التداخل ذروته خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهي حقبة شهدت ازدهارًا ملحوظًا في تحويل الأعمال الأدبية إلى أفلام سينمائية، مما منح النصوص المكتوبة بُعدًا بصريًا وإبداعيًا جديدًا، فمن منا يمكنه أن ينسى روائع الأعمال الأدبية مثل “الأرض”، “بداية ونهاية”، ”دعاء الكروان”، ”يوميات نائب في الأرياف”، ومسلسل ”الوتد”؟ هذه الأعمال جسدت قصصًا مستوحاة من واقع الحياة المصرية بأسلوب سينمائي مؤثر ومبهر، وقد أضافت هذه الروايات وغيرها من الروايات التي كتبها أعلام الأدب العربي في مصر، مثل عبد الرحمن الشرقاوي، نجيب محفوظ، طه حسين، وتوفيق الحكيم، وخيري شلبي، أبعادًا إنسانية عميقة للشاشة الفضية، مما جعلها تترك أثرًا عميقًا في نفوس المشاهدين وتظل محفورة في الذاكرة.

إعادة إنتاج الأعمال الأدبية

لعل ذلك يفسر استمرار العديد من القصص الأدبية في العودة إلى الشاشة الكبيرة كل بضع سنوات، بعد إعادة صياغتها بروح جديدة تتماشى مع العصر، مع الحفاظ على جوهرها العالق في الأذهان عبر الأجيال، ومع ذلك فإن هذا المسعى لا يخلو من التحديات، إذ تُوضَع النسخة الجديدة مباشرة في مقارنة مع النسخة الأصلية، وتُقيَّم بناء على جودة الإخراج، أداء الشخصيات، ومدى قدرة العمل على تجسيد روح النص القديم مع إضافة أبعاد مبتكرة، وعلى الرغم من أن هذه المقارنات تثير جدل النقاد والجمهور على حد سواء، إلا إنها تسلط الضوء على أهمية الإبداع في الحفاظ على جوهر القصة وتقديمها في قالب عصري يناسب تطلعات المشاهدين.

على النقيض من ذلك، نجد أن العديد من الأعمال الفنية في وقتنا الحالي تفتقر إلى القدرة على البقاء، ونادرًا ما تعلق في الذاكرة أو تعيد تقديم نفسها للأجيال القادمة، وهو ما يثير تساؤلًا مهمًا حول ما الذي يجعل العمل الفني خالدًا؟ فالأعمال التي تركت بصمتها على مر العصور لم تكن مجرد ترفيه لحظي، بل كانت تعبيرًا عن عمق التجربة الإنسانية بروح صادقة وأصيلة. هذا العمق والصدق، للأسف، نفتقدهما في كثير من الإنتاجات الحديثة، التي غالبًا ما تركز على الربح اللحظي أكثر من القيمة الفنية الطويلة الأمد.

مرآة المجتمع ومعاناة البسطاء

في هذا السياق، ومع حلول ذكرى ميلاد الروائي الكبير خيري شلبي في الحادي والثلاثين من يناير/كانون الثاني، تتجدد الحاجة إلى تسليط الضوء على أعماله الأدبية التي جسدت واقع الحياة المصرية بكل ما تحمله من تفاصيل دقيقة وصادقة.

استلهم خيري شلبي إبداعاته من رحلته الشخصية التي اتسمت بالتنوع والمثابرة، فقد تنقل في بداية حياته بين مهن شاقة مثل بائعًا متجولًا، وعامل تراحيل، و”مكوجيًا”، بالإضافة إلى عمله في الصناعات اليدوية كالنجارة والحدادة، قبل أن يلتحق بالوظيفة الحكومية ويعمل “كمسري” في هيئة النقل العام، ورغم صعوبة تلك الحياة، لم يتخل عن حلمه في الكتابة، التي أصبحت وسيلته القوية للتعبير عن تجاربه الشخصية وتجارب المجتمع من حوله. ما اكسب كتاباته التي استلهمها من واقع الحياة عمقًا إنسانيًا وبعدًا ثقافيًا فريدًا.

لقب الأديب خيري شلبي بعدد من الألقاب منها “أديب المهمشين”، و”رائد الواقعية الاجتماعية”، و”شيخ الحكائين”، لغزارة إنتاجه الأدبي الذي تجاوز السبعين كتابًا، متنوعًا بين الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والمقالات.

من بين أشهر أعماله التي تركت بصمة واضحة في الأدب العربي رواية “بغلة العروش” التي تناول فيها مشكلة الفقر، وطموح البسطاء في الثراء، ورواية “صالح هيصة” وتروي قصة بطل يحمل الاسم نفسه صالح هيصة، وهو شخصية فوضوية، ومتمردة على القواعد الاجتماعية. يفعل ما يريد ويعيش وفقًا لقيمه الخاصة حيث لا يتردد في كشف عيوب الآخرين والحديث عن الحقيقة في زمن كان الصدق فيه نادرًا. أما في رواية “الأوباش”، فيستعرض شلبي جانبًا من حياة الفقراء في دلتا مصر، مركّزًا على معاناتهم بسبب ظروف العمل القاسية والظلم الاجتماعي. من خلال تناول نظام الإقطاع واستغلال الفلاحين في نظام “الأنفار” و”الترحيلة”، حيث يعمل الفلاحون لساعات طويلة مقابل أجور زهيدة.

ترجمت معظم أعماله إلى لغات عالمية عدة، مثل الإنجليزية، الفرنسية، الروسية، الإيطالية، والصينية، كما شكلت أعماله موضوعًا للعديد من رسائل الماجستير والدكتوراه.

وحصد خلال مسيرته الأدبية العديد من الجوائز والتكريمات منها: جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1980-1981، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى لعام 1980-1981، والجائزة الأولى لاتحاد الكتاب عام 2002.

لقد أثبتت التجارب السينمائية الناجحة أن النصوص الأدبية العظيمة يمكن أن تعيش مرات عديدة، كل مرة بشكل جديد، دون أن تفقد روحها الأصلية، وهذا يدفعنا إلى تأكيد أهمية الحفاظ على التراث الأدبي وإعادة اكتشافه، ليس فقط كجزء من تاريخنا، ولكن كجسر نحو المستقبل، فالأدب والسينما معًا قادران على خلق حوار مستمر بين الأجيال، يحمل في طياته قيمًا إنسانية خالدة ورسائل لا تنتهي صلاحيتها.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان