غزة ودروس في الثبات ومنع الانكسار

أهدتنا غزة دروسًا “واقعية” نستطيع الاستفادة منها في حياتنا، ونغلق أبواب الانكسار أمام أشد الضغوط.
لم تنس غزة وفلسطين أبدًا تمكُّن الاحتلال من “فرض” إرادته في عام 1948 والتنكيل بالفلسطينيين صغارًا وكبارًا وأجنة في بطون أمهاتهم، “واختاروا” رفض زرع الهوان في عقولهم وقلوبهم، وأنجبت الأمهات من أجل فلسطين، وأرضعن الأولاد والبنات حب الوطن.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفائض تركي غير مسبوق في تجارتها مع العرب
العالم في خطر مع ترامب
تفجيرات منبج وعلاقتها بزيارة الشرع لأنقرة
وأثبتت غزة وفلسطين أن ما لم تستطع فعله أمام العدو في الأمس؛ لم يشل إرادتهم وتوهم عدم استطاعتهم مواجهته مستقبلًا.
عار الانحناء
ما لم تنحنِ فلن يمتطي ظهرك أحد، حكمة رائعة تنفستها غزة وفلسطين كلها، فلم ينحنِ غالبية الفلسطينيين للاحتلال، “وتبرأت” في حرب غزة الأخيرة عائلات ممن “تعبوا” من الحرب، وكتبوا منشورات تدعو إلى القبول بأي شيء لإيقافها، وكانوا قلة نادرة، ومع ذلك سارعت أسرهم بالتبرؤ منهم حتى لا يكونوا وصمة “عار” في جبينهم.
من الدروس، الاستفادة من أخطاء العدو، إذ أعادت فصائل المقاومة استخدام الصواريخ التي لم تنفجر، وحوّلتها إلى متفجرات، وأرسلتها للعدو الذي اعترف بذلك.
اختارت غزة السعي وراء الهدف وليس خلف القائد، فلم تتراجع بعد استشهاد قادة بارزين عسكريًّا وسياسيًّا عن “اختيار” المقاومة بفصائلها وأفرادها جميعًا مواصلة القتال وأمدَّ استشهادهم المقاومة وغزة بالمزيد من الإصرار على تحقيق “الهدف” وهو التحرر، ولم يحدث انكفاء بسبب غياب القادة وعلى رأسهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار.
كان اليقين بأهمية الروح المعنوية العالية “الوقود” الذي لا غنى عنه للشعب “قبل” المقاومة للانتصار، لذا رأينا مئات الفيديوهات المنتشرة على وسائل التواصل لأطفال وشباب ونساء ومسنين يقفون أمام بيوتهم المهدمة أو يحملون “أشلاء” أفراد أسرهم وهم “يتوعدون” الاحتلال بالهزيمة وبكسر “خشمه” وأنه سيركع في النهاية.
ونتذكر امرأة مُسنة توقفت منذ أعوام طويلة أمام بيتها الذي دمره الاحتلال واستشهد أفراد أسرتها تحت أنقاضه، وتوعدت شارون بأنه سيزول وستبقى فلسطين ما دام بقي على قيد الحياة طفل فلسطيني واحد.
لم يُخف الغزاويون والمقاومة أنفسهم أمام الحشد الدولي الهائل العسكري والمالي والسياسي والإعلامي الذي “احتشد” دعمًا لإسرائيل، وأمدَّه بأطنان من الأسلحة التي ألقيت على غزة بمساحتها الصغيرة، وهي تفوق ما استُخدم في الحرب العالمية الثانية.
الأضعف ولكن
اعتمدت غزة والمقاومة مبدأ رائعًا يفيدنا جميعًا، وهو إذا أجاد الأضعف استخدام كل إمكاناته “المتاحة” -وإن قلّت- ولم يقرر الانهزام “نفسيًّا” أمام القوة الزائدة لدى العدو؛ فسيباغت العدو ويتسبب له في الإرباك النفسي، وسيؤثر -ولو لاحقًا- في قدراته الميدانية.
وهو ما حدث، إذ تفوقت المقاومة وأبدعت في عمليات القنص والقتال من مسافة صفر، وظهور مقاتليها من تحت الأنقاض، ومباغتة جنود الاحتلال الذين صرخوا: كيف يظهرون لنا من تحت “الجحيم” بعد أن توقعنا نهايتهم؟
وتعرَّض بعض جنود الاحتلال لصدمات “نفسية” جراء ذلك، ورفضوا العودة إلى القتال وأعلنوا ذلك، ومنهم من انتحر، ونشرت الصحف العبرية سبب انتحاره وهو عدم استطاعته “تحمُّل” ما حدث في الحرب رغم خضوعه لعلاج نفسي لأشهر.
وحشية وغدر
الصبر والنفَس الطويل أهم الدروس، فقد تحملت غزة نفسيًّا وجسديًّا أقسى ظروف الحياة من قصف وحشي متواصل نال البشر والحجر، وتدمير كل أسباب الحياة “الإنسانية”، ونقص حاد في الدواء وتدهور شديد في إمكانية الحصول على الخدمات الطبية.
ورأينا طبيبًا يُجري جراحة بتر رجل لابن أخيه من دون مخدر.
وتعرَّضوا للتجويع وموت أجنة في بطون أمهاتهم بسبب نقص الغذاء، وموت أطفال رضع، ومسنين لم يجدوا أدويتهم ومنهم مرضى فشل كلوي وسرطان.
ولا أحد في العالم يمكنه تحمُّل كل ذلك، ومعه النزوح المتكرر تحت التهديد الصهيوني بضرورة إخلاء المخيمات فورًا وإلا تعرضت للقصف، وكثيرًا ما يباغتهم الغدر الإسرائيلي؛ فيتعرضون للقصف أثناء النزوح الذي يحدث كثيرًا سيرًا على الأقدام لتدمير غالبية السيارات في غزة، ولتناقص الدواب التي استعان بها بعضهم للتنقل، وكأنهم عادوا إلى الحياة البدائية، ورأينا شبانًا يحملون مسنين فوق ظهورهم.
يقين ووجع
نكرر، لا أحد يتحمل ذلك إلا إذا امتلك “اليقين” بعدالة قضيته، والعزيمة على استرداد حقه في أرضه والحياة الأدمية التي يستحقها، وبأن “كرامته” التي تتجسد في بقائه على أرضه “أغلى” شيء في حياته.
ويسبق ذلك أيضًا “اليقين” بأنه لن يموت قبل موعده المقدَّر له، وهذا بالطبع لا علاقة له بإهلاك النفس، فهم موقنون بأنهم سينالون إما النصر أو الشهادة، ولذا يقومون “بزف” الشهداء، ولا يتناقض ذلك مع “وجع” الفقد فهو شعور إنساني يجب احترامه.
ونتوقف عند حسن الاستعداد لليوم التالي لإيقاف الحرب، فرأينا أثناء تسليم الأسرى التنظيم الرائع والمظهر الباهر للمقاومة، والتعامل برقي مع الأسيرات والأسرى وعدم نقص أوزانهم، بينما نقص وزن أبو عبيدة كثيرًا.
وشاهدنا مقطعًا مصورًا لأسيرة مجندة وزنها زائد، وكأنها تأكل مرات عديدة يوميًّا، وسبق أن رأينا حسن توديع الأسيرات للمقاومة والخطاب الذي أرسلته إحداهن إلى حماس، والسماح لأسيرة باصطحاب كلبها وعودته معها بأمان.
الاختيار الوحيد
لنتعلم درس إبراز الإنجازات، فقد أجادت المقاومة استخدام الإعلام بتصوير فيديوهات لاقتحام دبابات الاحتلال ووضع متفجرات باليد على دبابة، فرفعت معنويات الغزاويين وأضعفت معنويات الاحتلال، وحظيت بإعجاب شعوب العالم.
وأحسنت غزة بالصمود أمام العدو فهو الاختيار الوحيد للنجاة، فتجارب الحروب تؤكد أن من يصمد طويلًا يربح ومن يستسلم يخسر، وقال تشرشل رافضًا الاستسلام أمام هتلر “الأمة التي تسقط وهي تقاتل ستنهض من جديد، والتي تستسلم بإرادتها ستنتهي حتمًا”.
كان القادة قدوة، فلم يستخدموا الكلام المنمق وشحن الناس بالحماس للقتال، بل شاركوا بأنفسهم وأولادهم جنبًا إلى جنب مع صغار المقاومين، فرأينا استشهاد قادة وأولاد بعضهم في القتال، فأضفى المصداقية على كلامهم، وضاعف تأثيرها في نفوس الشعب قبل المقاومة.