“كارتر”.. مزارع الفول السوداني الذي أصبح رئيس الولايات المتحدة

الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر
الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر (رويترز)

في حوار مع الدكتور عبد السلام جمعة، رئيس مركز البحوث الزراعية المصري الأسبق والملقب بأبي القمح وأحد المقربين من وزير الزراعة الدكتور يوسف والي، أخبرني أنه زار مزرعة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الشاسعة وتفقدها بطائرته “الهليكوبتر” الخاصة، ومن خلال هذه الزيارة أدرك السر في اكتفاء الولايات المتحدة الذاتي من القمح، وتصدرها للدول المصدرة للقمح.

فالمزارع في الولايات المتحدة كبيرة بحيث تشجع على استخدام الميكنة المتقدمة، والمناخ البارد والمناسب لزراعة القمح متوفر والأمطار وفيرة. أما مصر، فلا يمكن أن تكتفي ذاتيا من القمح، يقول جمعة، فالمناخ حار والأمطار شحيحة لا تكفي لزراعة القمح في الصحراء الشاسعة والمزارع صغيرة والحيازة مفتتة لا تصلح للميكنة.

كان ذلك ردا على سؤالي في زيارة لمكتبه بعد ثورة يناير سنة 2011، لماذا لا تشجع الحكومة المصرية الفلاح للاكتفاء الذاتي من القمح كما تفعل الولايات المتحدة؟!، ورغم قناعتي أن مناخ مصر الصحراوي ليس مبررا لعدم الاكتفاء الذاتي من القمح، وقد حققت المملكة العربية السعودية الاكتفاء الذاتي من القمح عندما أرادت، رغم أن بيئتها أشد تصحرا من مصر ومناخها أكثر جفافا، كما اعتبر أن صغر الحيازة الزراعية وتفتتها ليس عائقا أيضا، ويمكن التغلب عليه بتطبيق الدورة الزراعية، ولكن حديث جمعة، الذي كان يرأس مجلس الحبوب المسؤول عن سد فجوة القمح والذرة في مصر، عن زيارة كارتر في مزرعته، كشف لي عن استمرار مشاركة كارتر “الوديع” في تنفيذ سياسة الولايات المتحدة الرامية لهيكلة الزراعة المصرية والتخلي عن زراعة القمح والقطن وتشجيع زراعة الفراولة والكنتالوب والتفاح، ضمن ما عرف ببرنامج “إصلاح الزراعة المصرية”.

كما أدهشني حين أخبرني أن كارتر مزارع محترف، ومتخصص في إنتاج الفول السوداني تحديدا، وهو الذي لم يدرس الزراعة في أحد كلياتها المنتشرة في الولايات المتحدة، بل كان ضابطا بحريا ومهندس غواصات، ثم استقال من سلاح البحرية الأمريكية ليدير مزرعة العائلة بعد وفاة والده، ولم يهجر كارتر حرفة الزراعة بعد أن أصبح نائبا ديمقراطيا في “الكونجرس” عن ولاية جورجيا، ولا بعد أن أصبح حاكما للولاية نفسها.

وعندما فشل في الفوز بفترة رئاسة ثانية، رجع مرة أخرى إلى مزرعته كمزارع طيب، واستمر في إنتاج الفول السوداني الذي احترف زراعته وتجارته، ولكن ما السر الذي يجعل المزارع الطيب والفلاح المتسامح، كما هي أخلاق المزارعين في العادة، والمبشر يسعى للوصول إلى رئاسة الولايات المتحدة التي ينعتها الناس بكل شر، ثم يستمر في القيام بنشاط سياسي مغلف معظمه بغلاف إنساني حتى قبل وفاته بفترة وجيزة عن 100 عام؟!

الرئيس السيئ

في الصحافة الأمريكية، يعرف عن كارتر بأنه كان رئيسا مغمورا، ولكن نجمه لمع بعد أن أصبح رئيسا سابقا. يقول جوناثان ألتر، وهو كاتب عمود سياسي ومؤلف كتاب عن حياة كارتر، إن كارتر رئيس سيئ، ورئيس سابق عظيم، ففي فترته الرئاسية زاد التضخم واستفحلت البطالة، واندلعت أزمة نفط، ذلك على المستوى الداخلي، وفي السياسة الخارجية فشل في إنقاذ شاه إيران، حليف الولايات المتحدة الوثيق، من السقوط، وظهر بمظهر رئيس أمريكا الضعيف.

ورغم محاولات مساعديه الدعاية له بكونه رئيسا متدينا وأخلاقيا محبا للسلام، لم تكن سياسة الاحتواء الدبلوماسي مبدأ أخلاقيا دائما عند كارتر، ولكنه التكتيك الأول الذي يفضل استخدامه كرئيس ديمقراطي، إذا كان مجديا، ويحيد عنه ويلجأ إلى الخيار العسكري مثل أي رئيس أمريكي آخر، ديمقراطي أو جمهوري، إذا اقتضت الضرورة، وهو الرأي الذي أكده لي وشاركني فيه الدكتور عصام عبد الشافي، المتخصص في العلاقات الدولية الأمريكية، فأقام علاقات دبلوماسية مع الصين، ونجح بذكاء دبلوماسي برجماتي في احتواء التنين الصيني ومنع أهدافه التوسعية.

في المقابل، أعلن في سنة 1981 عن “مبدأ كارتر” للدفاع بالقوة عن مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فاستخدم القوة العسكرية لتحرير الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران بعملية مخلب النسر في 25 إبريل/نيسان سنة 1980، لكنها باءت بالفشل وأدت إلى تدمير طائرتين ومقتل 8 جنود. يقول جوناثان ألتر، إن كارتر أخبره في سنة 2016 أثناء كتابة سيرته الذاتية، أنه لو قصف إيران فربما كان سيضمن إعادة انتخابه، لكن الرهائن وآلاف الجنود كانوا سيقتلون، فهو ضحى بمستقبله السياسي لتحقيق مصلحة الولايات المتحدة، ليس لوازع إنساني أو حرصا على حقن دماء الإيرانيين.

وسعى كارتر لتفتيت قوة الاتحاد السوفيتي عسكريا، وسلّح المجاهدين الأفغان سرا لمحاربة الحكومة الموالية للسوفيت في كابول، وبعد احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، سلّحت الولايات المتحدة المجاهدين الأفغان في عهد كارتر بكل قوة للنيل من الاتحاد السوفيتي، حيث لا جدوى من الحل السلمي، وفي وقت لاحق، كشف مستشاره للأمن القومي زبيجنيو بريجنسكي، عن أن كارتر عمل على تحقيق فكرة خبيثة ملخصها هو خلق “فيتنام سوفيتية” لتقويض الإمبراطورية الشيوعية، ونجحت فكرته بالفعل، وإن كان ميلاد طالبان وظهور أسامة بن لادن كزعيم لتنظيم القاعدة، من عواقبها المدمرة لمصالح الولايات المتحدة بعد عقدين من الزمان، وفق بريجنسكي.

الرئيس السابق العظيم

سئل كارتر عن سبب تألقه بعد الرئاسة، فألقى باللوم على منظومة الحكم الأمريكية ذاتها، وقال إنه بعد التحرر من قيود الرئاسة استطاع أن يقول ما يريد، وأن يلتقي بمن يريد، وأن يقبل المشروعات والملفات التي تعجبه، ويرفض التي لا تعجبه، وبعد فشله في الفوز بفترة رئاسة ثانية، أسس مركز كارتر في عام 1982 كصانع سلام دولي ومناصر للديمقراطية والصحة العامة وحقوق الإنسان، وتثبت سيرة الرجل طوال 40 سنة من العمل الإنساني، من خلال مركز كارتر ومؤسسة “هابيتت فور هومينيت”، أو بيوت من أجل الإنسانية، التي عملت على بناء بيوت للفقراء حول العالم، أنه كان مخلصا لأمته، وسخر إنجازاته لخدمة الولايات المتحدة وتحقيق مصالحها بالطرائق السلمية.

فنجح في عهد الرئيس بيل كلينتون في احتواء زعيم كوريا الشمالية من خلال عقد صفقة لخفض التسلح في مقابل حزمة مساعدات، وطالب بدمج كوريا الشمالية في المجتمع الدولي لتفادي شرورها، وهو الموقف الذي جعل كارتر أقرب إلى الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، وشارك في إحلال السلام في البوسنة، ولكنه زرع مندوبا أمريكيا ساميا في الدولة الجديدة، وبذلك نجح في وضع قدم للولايات المتحدة في وسط أوروبا، وطالب الإدارات الأمريكية بتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية معها وتجنب الصدام العسكري، احتراما لموازين القوى أكثر من احترام مبادئ الحل السلمي، وشارك في تخفيف التوترات النووية بين كوريا الشمالية والجنوبية، وعمل على تجنب غزو الولايات المتحدة لهايتي، وبالتالي نجح في تحقيق هيمنة الولايات المتحدة بطرائق دبلوماسية، وفي الوقت نفسه نال جائزة نوبل للسلام في سنة 2002.

سر دعم كارتر للقضية الفلسطينية

لا يُعرف رئيس من رؤساء الولايات المتحدة خَبَرَ دول الشرق الأوسط بعمق مثل جيمي كارتر، وبجهود دبلوماسية شخصية، نجح كارتر في هندسة معاهدة كامب ديفيد للسلام، وحقق مصالح الولايات المتحدة في إخراج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، ونقلها من المعسكر السوفيتي إلى تابع في فلك الولايات المتحدة، وحقق أمن إسرائيل وضمن لها منفذ في البحر الأحمر، دون توريط بلاده في حرب مكلفة في المنطقة، وهي التي خرجت للتو من مستنقع فيتنام. في ذلك يقول جوناثان التر، إن كارتر هو أفضل رئيس أمريكي عمل لأمن إسرائيل منذ هاري ترومان، لأنه قام بتحييد الجيش الوحيد القادر على تدمير إسرائيل لأكثر من 4 عقود، بطريقة سلمية، في مقابل مساعدات سنوية بقيمة 1.3 مليار دولار.

حاول كارتر حل القضية الفلسطينية خلال فترة رئاسته من خلال حل الدولتين على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242، وأخذ وعدا من رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجن شريكه مع الرئيس السادات في اتفاقية كامب ديفيد، ولكنه لم يف بوعده، ورغم ذلك، زار قطاع غزة في منتصف 2009 وتفقد الدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في ديسمبر 2008، وتفقد مدرسة أمريكية دمرتها غارة جوية إسرائيلية أثناء الحرب، وقال إنه يحبس دموعه بسبب أن هذا الدمار تم بمساعدة صواريخ صنعت في بلاده، والتقى إسماعيل هنية، رئيس الوزراء السابق وقائد حركة (حماس) التي تسيطر على القطاع، وطالبه بالقبول بخيار السلام، في مقابل دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وفك الحصار عن غزة والإفراج عن الأسرى والاعتراف بحكومة (حماس) المنتخبة، ودعم المصالحة الفلسطينية في الضفة والقطاع ووقف الاستيطان في الضفة.

وصرّح هنية بقبول المقترح، بشرط أن تكون الدولة الفلسطينية المزمعة على حدود 1967، وطالب كارتر إدارة باراك أوباما بتنفيذ حل الدولتين، لكن نصيحته لم تأخذ مأخذ الجد، ورفض بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، اقتراح كارتر بدولة فلسطينية منزوعة السلاح وتحت إشراف قوات سلام دولية، واتهمه مسؤولون إسرائيليون بتلقي أموال عربية لمؤسسته الخيرية، وربما لو أخذ اقتراح كارتر مأخذ الجد، لتجنب نتنياهو هجوم السابع من أكتوبر، ووفرت الحكومة الأمريكية مليارات الدولارات والأسلحة والعتاد التي نقلتها لإسرائيل خلال العام الماضي كله، وحافظت على صورتها في العالم التي تضررت كثيرا بسبب دعمها الأعمى لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان