خرافة العلمانية: ما تأثير الدين في العلاقات الدولية؟!
كان من نتائج التحيز لمشروع التنوير الأوروبي أن علماء السياسة تجاهلوا دور الدين في بناء الدول، وإدارة الصراع، وتشكيل العلاقات الدولية.
أدى ذلك إلى قصور النظريات السياسية وعدم قدرتها على تحليل الأحداث وتفسير الواقع، وزيادة الحاجة إلى نظريات جديدة تتناسب مع تحديات القرن الحادي والعشرين، وتشكل أساسا لبناء علاقات دولية تقوم على التعاون بين الشعوب لتحقيق أهداف مشتركة من أهمها الكفاح ضد الاستعمار والاستبداد.
صدمة الثورة الإيرانية
يبدأ والتر مكدوجل -أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بنسلفانيا- دراسته عن دور الدين في إدارة الصراع بسرد قصة زيارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر لإيران في 31 ديسمبر 1977، حيث قال كارتر في حفل العشاء الرسمي موجها خطابه للشاه رضا بهلوي: إن إيران هي حليف أمريكا الموثوق به في منطقة تتميز بالاضطراب وعدم الاستقرار، وإنك تستحق الإعجاب بسبب حب شعبك واحترامه لك.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsوقف إطلاق النار.. ما الذي خسره الكيان؟!
اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وحرب بلا نهاية
هل فشلت أمريكا في إدارة الأزمات؟!
بعد أشهر قليلة مرت على تلك الزيارة انتشرت الاضطرابات والمظاهرات في أنحاء إيران، وأسقطت الثورة الشاه، وأقامت جمهورية إسلامية، وأصبح الشاه لاجئا، ورفضت أمريكا إقامته فيها حتى لا يؤثر في علاقتها بالنظام الإيراني الجديد.
الدين فاعل في إدارة الصراعات
منذ ذلك التاريخ بدأ دور الدين يتضح في إدارة الصراعات العالمية، واتجهت أمريكا إلى استخدام الدين لتحقيق مصالحها، فساندت المجاهدين الأفغان الذين تمكنوا من هزيمة الاتحاد السوفيتي.
ثم اتجهت إلى استخدام الدين المسيحي، حيث قامت الكنائس المسيحية بتشجيع الناس على تحطيم جدار برلين، وهو الحدث الذي شكل بداية النظام العالمي الجديد، وصعود أمريكا لتصبح القطب الوحيد وتقود الاتجاه إلى العولمة.
كما استخدمت أمريكا الدين المسيحي في إشعال الثورات في دول أوروبا الشرقية، واكتشفت أن هذا الدين هو الذي يربط شعوب هذه الدول بها، ويزيد فرص بناء علاقات قوية معها، فشجعت الكنائس على القيام بدورها في تأجيج المشاعر المسيحية، كما صمتت عن حرب الإبادة التي شنها المسيحيون الصرب ضد المسلمين في البوسنة والهرسك، وسهلت للصرب القيم بالمذابح ضد المسلمين.
كذلك فعلت الدول الأوروبية التي شجعت شعوب أوروبا الشرقية على الارتباط بالمسيحية كونها تشكل الأساس للحضارة الغربية، وبدأ يتردد توصيف هذه الحضارة بأنها حضارة مسيحية يهودية.
استخدام الإسلاموفوبيا في الصراع
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، أدرك خبراء التخطيط الاستراتيجي أهمية وجود عدو، ليتم توجيه مشاعر الغضب الجماهيري نحوه، فاستقرت مراكز البحوث على تقديم الإسلام كعدو للحضارة الغربية الحديثة المتقدمة، وبدأت الدول الغربية في نشر الإسلاموفوبيا، والتحذير من خطر الإسلام.
وقامت وسائل الإعلام الغربية بتأجيج المشاعر الدينية المسيحية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، وتم استخدام هذه المشاعر لزيادة التأييد الشعبي للعدوان على أفغانستان والعراق، وبناء تحالف عالمي للحرب ضد الإرهاب.
أخيرًا تم الاعتراف بدور الدين
يري مكدوجل أن المؤسسات الدينية المسيحية لعبت دورا في دمقرطة 48 دولة خلال الفترة من 1972 حتى 2009، ولم يحدد تلك الدول، لكنه يشير إلى دول أوروبا الشرقية، وبعض الدول الإفريقية مثل جنوب السودان التي لعبت الكنيسة دورا مهما في إشعال الصراع مع الشمال، والنجاح في فصل الجنوب.
لكننا نرى أن استخدام مفهوم الدمقرطة هنا لم يكن صحيحا، وأن المقصود هو إقامة نظم حكم تابعة لأمريكا، واستخدام بعض المظاهر والأدوات الديموقراطية مثل المجالس النيابية، وتحويل هذه الدول إلى سوق للمنتجات الأمريكية.
لكن من الواضح أن استخدام مكدوجل لمفهوم الدمقرطة يشير إلى أن الدعاية الغربية ربطت بين الديموقراطية والمسيحية، وعدم وجود تناقض بينهما، كما ركزت على وجود تناقض بين الإسلام والديموقراطية.
قصور النظريات السياسية
نتيجة لذلك بدأ علماء السياسة يعترفون بقصور النظريات السياسية، والحاجة إلى نظريات جديدة تعترف بدور الدين في العلاقات الدولية، وإدارة الصراع العالمي، وتجلي ذلك في عنوانات بعض الكتب التي نشرت في أمريكا خلال السنوات الماضية مثل دور الدين في بناء الدول والجغرافيا السياسية للعقائد في القرن الحادي والعشرين، والحرب والدين والإمبراطوريات.
رؤية نقدية للاتجاه الجديد
لكن ذلك الاتجاه العلمي يحتاج إلى رؤية نقدية تقوم على دراسة تاريخ الصراعات العالمية خلال القرن العشرين، وتشجيع الباحثين على اكتشاف الحقائق التي يمكن أن تزيد وعي الشعوب، وعلى سبيل المثال وجّه أستاذ العلوم السياسية إدوارد لوتاك اللوم لعلماء السياسة، بسبب تحيزهم لمشروع التنوير الأوروبي، الذي يقوم على العلمانية، مما أدى إلى تجاهلهم لدور الدين في التحليل السياسي للشؤون الخارجية.
كما وجّه اللوم أيضا إلى صناع القرار السياسي والصحفيين الذين يركزون على دور الاقتصاد في تفسير الأحداث، ويقللون من دور الدين مما أدى إلى عدم قدرة النظريات السياسية على تفسير الصراعات العالمية والعلاقات الدولية.
الدين فاعل في الصراع
توصل مكدوجل في دراسته إلى نتيجة مهمة: هي أن الدين له دور مهم في الصراعات العالمية كلها، وأنه العامل الحاسم في الحروب كلها، وأن هناك بعدا دينيا في الصراعات كلها، وأن القادة الدينيين هم سلطة فاعلة في نجاح الدول وفشلها، كما أن الدين من أهم مكونات بناء الهوية للدول والجماعات العرقية.
إذا درسنا تاريخ الصراع الصهيوني الفلسطيني يمكن أن نجد الكثير من الأدلة على دور الدين في تشكيل تحيز أمريكا والدول الأوروبية لإسرائيل، وأن مساندة هذه الدول لإسرائيل كانت نتيجة لتحيز ديني.
لذلك يرى مكدوجال أن تحيز علماء السياسة للعلمانية أصابهم بالعمى عن رؤية دور الدين في إدارة الصراعات وتشكيل العلاقات الدولية، ولذلك لم يتمكنوا من تحليل الأحداث بعمق، ولذلك يجب أن يمتلكوا الشجاعة لتحرير أنفسهم من العلمانية.