تمثال ديليسبس “المحتال”.. أم الفلاح الذي حفر “القنال”؟!

تمثال ديليسبس (منصات التواصل)

في احتفال محافظة بورسعيد المصرية بعيدها القومي الـ68، يوم 23 من ديسمبر/كانون الأول الماضي (عيد النصر)، أعلن المحافظ محب حبشي، وهو جنرال سابق بالجيش، عودة تمثال فرديناند ديليسبس إلى بورسعيد، وقال “طلبنا من رئيس الوزراء عودة التمثال، ووعد بدراسة الأمر”!

عيد النصر كان احتفالًا عامًّا، مثل احتفالات وطنية عديدة ترتبط بأحداث مفصلية وتضحيات تاريخية للشعب المصري، وبعد رحيل عبد الناصر تم إيقاف الاحتفال به، وقصره على بورسعيد التي واجهت ببسالة غزو القوات الأجنبية للمدينة خلال العدوان الثلاثي على مصر.

لماذا 23 من ديسمبر؟

في ذلك اليوم عام 1956، انسحب المعتدي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) من سيناء وقناة السويس، بعد حرب شنها على مصر بدأت في 29 من أكتوبر/تشرين الأول 1956، وتوقفت في 7 من نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، تحت ضغط دولي وتهديدات أمريكية وسوفيتية للدول الثلاث.

جاء العدوان الغاشم على خلفية تأميم الرئيس عبد الناصر لقناة السويس يوم 26 من يوليو/تموز 1956، في إعلان صادم لبريطانيا وفرنسا اللتين تمتلكان أسهم شركة قناة السويس.

ليس بالضرورة أن يحوز قرار التأميم إجماعًا سياسيًّا، وهناك فريق لا يزال يرى حتى اليوم أن امتياز القناة -ومدته 99 عامًا- كان سينتهي عام 1968، وكانت مصر ستتسلم القناة بشكل طبيعي، لكن تسربت شكوك كثيفة بشأن عدم احترام لندن وباريس لبنود “فرمان امتياز القناة”، وقيل إن شواهد كثيرة برهنت أن العاصمتين لن تسلّما القناة.

لكن الشعور الشعبي العام -حينئذ وإلى اليوم- مغتبط بتأميم القناة، وهى  خطوة كانت ضرورية لمصر ولمرفق مائي أساسي يجري على أرضها لكنها لا تمتلك فيه شيئًا، وليس لها قرار بشأنه، بل كانت القناة أقرب إلى دولة أجنبية داخل الدولة المصرية.

في الفيلم الأيقونة (ناصر 56) مشهد بالغ الدلالة، حيث يجسد حسن حسني دور موظف بالقناة فُصل لأنه مصري، ويريد التظلم، فأخذ يبحث في منطقة القناة عن قنصلية مصرية يشتكي إليها تعسف الإدارة الأجنبية معه.

إسقاط التمثال

تمثال ديليسبس نُصب في المدخل الشمالي لقناة السويس بمدينة بورسعيد في 17 من نوفمبر 1899، وظل في مكانه طوال 57 عامًا حتى أسقطه شعب بورسعيد في 23 من ديسمبر 1956، وهو اليوم التالي لانسحاب الغزاة من المدينة ومبنى القناة.

وكان إسقاط التمثال ردًّا طبيعيًّا على العدوان الثلاثي، وعلى كون ديليسبس الفرنسي رمزًا شائنًا للاستعمار الأجنبي لمصر؛ الفرنسي (1798-1801) والبريطاني (1882-1954)، ولا ينبغي أن يظل هذا الشاهد يطل على القناة وبورسعيد التي دمرها العدوان.

نُصب تمثال ديليسبس باعتبار أنه صاحب مشروع حفر القناة، والثابت تاريخيًّا أن التفكير في حفر قناة تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض موجود منذ أيام الفراعنة، وكذلك عصور الاحتلال التي مرت على مصر من فرس وبطالمة ورومان وغيرهم، وبعد الفتح الإسلامي تجددت الفكرة، لكن الخليفة عمر بن الخطاب خشي غرق مصر إذا حُفرت القناة، ودرس نابليون المشروع خلال غزوه لمصر، ثم تراجع عنه لأخطاء في الدراسات.

وما كتبه الدكتور مصطفى الحفناوي، وهو المرجع الأهم في قناة السويس، واستند عبد الناصر إلى دراساته عن القناة في قرار التأميم، وكذلك مؤلفات مؤرخي القناة، هذه الكتابات جميعها تستند إلى الوثائق المصرية والأجنبية وعلى رأسها الفرنسية، وتثبت أن ديليسبس لم يكن مهندسًا، إنما هو محتال ونصاب ولص، وكان يعمل في القنصلية الفرنسية بمصر، ونسج علاقة خاصة مع حاكم مصر سعيد باشا، واستطاع بوسائل التفافية أن يسيطر عليه وينتزع منه “فرمان حفر القناة وامتياز تشغيلها 99 عامًا”، والخرائط الهندسية لحفر القناة لم تكن من تصميمه، بل سطا عليها من جماعة فرنسية وأرملة أحد المهندسين حيث كانوا مهتمين بمشروع القناة.

السخرة والضحايا

والأخطر في قضية القناة اعتماد ديليسبس على الفلاحين والعمال المصريين للقيام بالحفر بالسخرة عبر المعاول والفؤوس والمقاطف، ولهذا مات كثيرون في ظروف العمل والإعاشة القاسية غير الآدمية، وتفشي الأمراض الفتاكة، والعدد قد يصل إلى 120 ألفًا من تعداد سكان مصر الذي كان يبلغ 4.8 ملايين نسمة.

وديليسبس خدع أحمد عرابي خلال تصديه للقوات البريطانية الغازية لمصر، وطمأنه بأنه لن يسمح لها بالمرور عبر القناة، لكنه فتح لها الممر المائي، وفوجئ عرابي بذلك، وكانت هزيمة التل الكبير، وبقاء الإنجليز 72 عامًا في مصر.

مصر تحملت من خزانتها الخاوية ضعف ما يجب أن تتحمله في حفر القناة بسبب تلاعب ديليسبس، وجاء الخديوي إسماعيل، بعد سعيد، لينفق أموالًا هائلة على حفل افتتاح القناة الباذخ في 17 من نوفمبر 1869، وقد استدان كثيرًا، ولهذا باع كل أسهم مصر في القناة للبريطانيين، وصارت مصر لاتمتلك شيئًا من الممر البحري الأهم عالميًّا رغم أنه في أرضها.

طي صفحة المتآمر

التمثال الموجود في مخازن القناة رممه محافظ بورسعيد السابق الجنرال عادل الغضبان بمليون و300 ألف جنيه، ونُقل إلى متحف القناة بمحافظة الإسماعيلية، ليأتي الجنرال الجديد محب حبشي ليصدم الشعب المصري بتحركاته لإعادة التمثال إلى قاعدته مجددًا، وهو تحرك بائس ومرفوض بسبب سجل هذا المحتال المتآمر، وبسبب دماء مئات الآلاف التي روت أرض القناة قبل أن تغمرها المياه.

ستكون كارثة إذا كان المحافظ مجرد واجهة في إعادة التمثال، بينما هناك في الخلف من يريدون ذلك لاعتبارات خاصة في العلاقات مع فرنسا، رغم أن هذا البلد لا يوجد فيه تمثال واحد لديليسبس، بل إن محاكم فرنسا أصدرت ضده أحكامًا بالسجن وتعويضات تتعلق بالرسوم الهندسية للقناة وخطط تنفيذها.

الأحق بالتمثال منذ عام 1956 هو الفلاح المصري الذي حفر القناة بعرقه ودموعه ودمه، وليس أي كائن آخر.

ونختم المقال بالمشهد الرائع الآخر في (ناصر 56) الذي جسدت فيه أمينة رزق دور فلاحة من صعيد مصر، أصرت على مقابلة عبد الناصر لتخبره أنه بتأميم القناة برَّد قلبها وأخد بثأرها لمقتل جدها الكبير خلال العمل بالسخرة في القناة.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان