عدوية والغناء خارج سلطة الدولة
في مقهى صغير بأحد أحياء القاهرة الشعبية يُسمى “مقهى الآلاتية”، ظهر شاب قادم من الصعيد المصري في عام 1969، بينما كانت شمس دولة قوية تلملم أشعتها التي انتشرت وسطعت طوال 18 عاما هي عمر طفولة أحمد عدوية وصباه، بينما تشرق شمس الفتى الصعيدي بصوته المميز القوي الذي لا يخلو من جمال شعبي لافت.
لم يكن صوت عدوية بعيدا عن أصوات المطربين والمغنّين الذين عاصروا دولة يوليو من حيث مقومات الصوت القوية، وإن غابت عنه ملامح المطربين، لكنه كان متواكبا مع المغنّين الشعبيين الذين سبقوه وعاصروا دولة ناصر، أمثال محمد قنديل ومحمد عبد المطلب وكارم محمود وعبد العزيز محمود وغيرهم، الفارق أن ظهور عدوية كان مع انسحاب يد الدولة عن دعم الفنون وبدء عصر جديد للغناء خارج سلطة الدولة، وبعيدا عن رقابتها وإشرافها على ما يقدمه الفن.
غناء شعبي جديد
لم تكن دولة يوليو بعيدة عن اللون الشعبي في الغناء، وتمثلت رعاية منها في هذا التراث الذي لا يمكن لدولة أن تتغافل عنه، فكان الصوت الشعبي المصري متمثلا في أصوات المطربين السابق ذكرهم.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرسالة لصديق بغزة انقطعت أخباره
الأمان المفقود في إسرائيل!
ماذا ينتظر غزة بعد وقف إطلاق النار؟
حتى أغاني التراث الشعبي الذي يردده العمال والفلاحون و”الصنايعية”، وجد لنفسه مساحة في رعاية الدولة من خلال فرق الفنون الشعبية وقصور الثقافة، ولكن ها هي الدولة تبعد أيديها عن الفن في إطار ظرف يونيو/حزيران 1967، ووفاة جمال عبد الناصر في سبتمبر/أيلول 1970، لتبدأ مصر مرحلة جديدة بحلول عهد الانفتاح واتساع دائرة نفوذ رجال الأعمال.
كان عدوية الذي يراه كثيرون صاحب مدرسة جديدة في الغناء الشعبي على موعد مع الشهرة في عام 1972، وبعد أن بدأت شهرته تتسع كان حفل زواج المطربة شريفة فاضل في ملهى “الأريزونا” نقطة انطلاقه، وكان صاحب الملهى موجودا وكثير من أهل الصحافة والفن، فعرض عليه صاحب الملهى العمل فيه، وبدأ عدوية ينتشر في أوساط الصحافة والفنانين فكانت انطلاقته التي بلغت قمتها في عام 1977.
لم يكن عام توهج عدوية عاديا في مصر والدول العربية، فقد سبق هذا العام في سنوات صعوده تحوُّل مصر من الاشتراكية الناصرية إلى الانفتاح الساداتي الذي أطلق عليه الكاتب الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين تعبير “انفتاح السداح مداح”، وقد أفرز هذا الانفتاح نماذج جديدة لرجال الأعمال، فظهر تجار الخردة والمخدرات واللحوم الفاسدة، والمقاولون الذين أفسدوا خامات البناء.
ظهرت ما تُسمى “طبقة الطفيليين” الذين تاجروا واستثمروا في كل شيء حتى وصلوا إلى الأعضاء الجسدية للمصريين، وفي تلك الظروف كان صعود عدوية الفني والغنائي، وقد وجد ما يناسبه عند منتجي شرائط الكاسيت والأفلام السينمائية الذين استغلوا صوته وكلمات أغانيه في عصر (السداح مداح) و”السح ادّح امبوه.. إدّي الواد لابوه” وهذه إحدى أغنيات عدوية.
امتداد لما قبله؟
هل يمكن اعتبار أغاني عدوية امتدادا لأغاني الفلاحات في مواسم الحصاد وفي الأفراح وعلى الترع أثناء جولات غسيلهم، وفي مواسم جمع القطن، تلك الأغاني التي تجمع بين اللهو والسجع وأحيانا الألفاظ الجارحة، ومن جهة أخرى تتضمن الحكمة المصرية، هذه الأغاني التي قدَّمها كاتب التراث الشعبي الرائد شوقي عبد الحكيم في مجموعة مؤلفات وتابعه عدد من الباحثين، والتي تنتقل من حكايات الأساطير الشعبية مثل السيرة الهلالية وسيرة سيف بن ذي يزن، حسن ونعيمة، شفيقة ومتولى، إلى أغاني مثل ”أيوَه يا واد يا ولعة” “ما اشربش الشاي” “ياللي ع الترعة حوّد ع المالح”.
تلك الأغاني كانت تنتشر في قرى مصر ونجوعها، والواقع أن عدوية جاء متماثلا مع عصره القاهري وليس جذوره الصعيدية، متواكبا مع سياسات الانفتاح والسلام مع العدو الإسرائيلي الذي قذف به السادات في وجه الدولة المصرية والأمة العربية، والذي بدأ به عصر التيه العربي، حسب وصف الكاتب المسرحي والدرامي المصري يسري الجندي.
الأجواء التي صاحبت صعود نجم أحمد عدوية فرضت عليه غناء بطبيعة خاصة مثل مدرسة كبيرة لها جمهورها “رواد الملاهي الليلية”، وكما كان تجار القطن والمحاصيل قبل دولة يوليو الناصرية، أصبح هناك تجار التوفيقية والدواجن الفاسدة وحديد التسليح والخردة.
أولئك هم رواد ملاهي شارع الهرم الذي انتقل إليه كل رواد شارع عماد الدين من العصر الملكي إلى العصر الساداتي، وتبع صعود عدوية جيل من المطربين الشعبيين أمثال كتكوت الأمير ثم حسن الأسمر، وصولا إلى حكيم ومنه إلى مغنّي المهرجانات، كل يحمل سمة عصره وينمو في عباءة الطبقة الاقتصادية وطبيعتها.
ما سبق هل يدين صوت عدوية ومن تبعه؟ الواقع أن عدوية ظهر في وجود قمم غنائية مصرية وعربية، وقد أشادوا به جميعا، إلا أنه في عصره كان غيابهم متتاليا سواء بقلة الغناء أو الرحيل، فقد رحل في سنوات صعوده الخمس أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد فوزي، وأخيرا عبد الحليم حافظ في مارس/آذار 1977، وتثاقلت خطوات العديد من نجوم مصر الشعبيين ممن تألقوا تحت رعاية الدولة.
ابن مجتمعه
بينما عانى جيل أحمد عدوية مقولة “الجمهور عايز كده” أو “السوق عايز كده” وسطوة تجار الكاسيت، فإن عدوية وكتكوت الأمير وحسن الأسمر وحتى حكيم كانوا ذوي أصوات قوية وجذابة، وقد يكونون أصحاب حضور حقيقي، لكن سوق الكاسيت والفيديو كان يضع قواعده.
قد يقال إن دولة يوليو شهدت الكثير من التجارب للقطاع الخاص خاصة في مجال السينما التي كانت خفيفة كوميدية، وأحيانا تقترب من اللون الشعبي الذي تراه في دولة الانفتاح التي قادها أمثال عصمت السادات ورشاد عثمان وتوفيق عبد الحي.
قد يكون في المقولة بعض الحقيقة، لكن في اتساع الرعاية والرقابة والنسبة بين هذا الإنتاج وذاك يكمن سر الفرق بين العصور، الذي يصل بنا إلى اتساع الاهتمام بأغاني المهرجانات الآن وغلبتها على المنتج الجيد، وكذلك ارتباط كل منتج بقضايا عصره، وثمَّة فروق كثيرة بين قضايا عصر مطرب شعبي مثل محمد قنديل صاحب “أمجاد يا عرب أمجاد” و”وحدة ما يغلبها غلاب”، وقضايا عصر عدوية ممثلة في أغنيات “سيب وأنا أسيب” “سلامتها أم حسن” “زحمة يا دنيا زحمة” و”يا بنت السلطان”، فكل عصر يفرز قضاياه.
تلك الأغنيات التي أداها أحمد عدوية وغيره من المطربين الشعبيين الذين جاؤوا بعده، أسمعها في بعض الأحيان، وأستمتع ببعض ما قدَّمه في الأفلام السينمائية الـ27 في إطار الترفيه والخفة، وأستمتع أيضا ببعض أغاني حسن الأسمر وخاصة في أعمال درامية مثل مسلسل “علي بابا والأربعين حرامي”.
كان عصر كل مطرب يفرض أحكامه، وكان غناء عدوية خارج السلطة ورعايتها، وفي مقابله كان هناك أيضا غناء خارج السلطة لكن بميزات مختلفة، وهو ما قدَّمه علي الحجار ومحمد منير ومحمد الحلو. الغناء خارج رعاية الدولة صعب، لكن الكل يختار طريقه، من يدفع الثمن ومن يستسهل الطريق، ولكن تبقى توجهات الدولة وقيمها حاكمة في المطروح من الإنتاج الثقافي عامة والغنائي والسينمائي خاصة. وأحمد عدوية صاحب الصوت المميز والقوي كان نتاج معايير عصره فتماشى معه، وكان 1989 عام غياب صوته بعد حادثة شهيرة، والأسبوع الماضي كان رحيله، بينما يولد عصر جديد للأمة، قد يجد من يعبّر عنه فنا وغناء.