من يصنع الأحزاب؟

لوغو الحزب الجديد.. وضع الشعار قبل كتابة البرنامج (منصات التواصل)

 

الأحزاب السياسية ليست مجرد مسميات وأوراق وشخصيات مشهورة.

أثار حزب “الجبهة الوطنية” الجديد جدلًا واسعًا في مصر، وصنعت صور المواطنين الذين يصطفون أمام مكاتب الشهر العقاري لتحرير توكيلات التأسيس ضجة وردود أفعال، وبات الحديث عن الأحزاب السياسية وطبيعتها وأدوارها ضرورة.

من يصنع الأحزاب؟ وكيف تؤثر؟ وهل يمكن أن تنجح إذا كانت السلطة هي مصدر نشأتها وشهرتها؟

في تاريخ السياسة بمصر والعالم إجابات متنوعة على السؤال، ترسم الطريق لإدراك وفهم طبيعة الأحزاب التي تنشئها الجماهير وتخرج من وسط المعارك النضالية، أو تلك التي تنشأ بقرار من السلطة -أي سلطة- ولا تفارقها إلا إذا حانت لحظة الرحيل.

أحزاب صنعتها الجماهير والمعارك

في عام 1900 تأسس حزب العمال، أحد أكبر الأحزاب في بريطانيا، خرج إلى النور نتيجة لضغوط النقابات العمالية والجماعات الداعمة للطبقة العاملة التي كانت تفتقد لوجود ممثلين لها في البرلمان.

بطريقة نشأته وبقوى اجتماعية ناضلت من أجل خروجه للنور كان الحزب استجابة مباشرة لمطالب الجماهير التي رأت ضرورة تحسين ظروف العمل والأجور، وتوسيع مساحات العدالة الاجتماعية لتشمل الطبقات الأكثر احتياجًا.

في خروج حزب العمال من قلب الطبقات العاملة ما ساهم في نجاحه في تقديم إصلاحات مهمة على طريق نشر العدل الاجتماعي، فشارك بقوة في خروج هيئة الخدمات الصحية التي توفر الرعاية الصحية المجانية لجميع المواطنين وفي تعديل الكثير من القوانين والسياسات الاجتماعية.

أخرجت الجماهير الحزب الشهير بنفسها إلى النور، فأدرك قضاياه ومعاركه وانحيازاته، وبات يعبر عن شرائح واسعة تناضل من أجل العدالة، ووصل مرات إلى السلطة كصوت للطبقات الفقيرة والمتوسطة.

في جنوب إفريقيا، وفي عام 1912 تأسس حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، خرج من رحم نضال متواصل ضد سياسات الفصل العنصري، وحاز شعبية كبيرة وواسعة في صفوف الأغلبية من أصحاب البشرة السمراء التي كانت تعاني التمييز والقمع.

في اختيار الجماهير لحزبها الذي دافع عنها ما جعل المؤتمر الإفريقي هو الأكثر صدامًا مع العنصرية، والأكثر كفاحًا من أجل المساواة وتحسين الخدمات التعليمية والصحية، حتى بات رمزًا لطريق نضالي طويل انتهى بانتقال سياسي إلى الديمقراطية في البلد الإفريقي المهم.

خروج الأحزاب من قلب القضايا والنضال الشعبي يرسخ من قوتها ويصنع معاركها ويرسم أمامها خريطة الطريق للمستقبل.

هذه حقيقة مؤكدة!

وفي كل انفصال عن الناس وقضاياهم وهمومهم ما يباعد بين الحزب وبين الجماهير مهما كان مشهورًا أو مدعومًا.

كيف خرج الحزب إلى النور؟ ومن أنشأه وحدد معاركه؟

تلك هي القضية!

الحزب الوطني في مصر

في عام 1978 وعلى يد الرئيس الراحل أنور السادات تأسس الحزب الوطني الديمقراطي في مصر.

منذ هذا التاريخ وحتى ثورة 25 يناير/كانون الثاني الخالدة في عام 2011 سيطر الحزب الذي خرج بقرار من رئيس الدولة على الحياة السياسية تمامًا، حاز على الأغلبية البرلمانية في كل انتخابات جرت، وضم لعضويته كل النخب السياسية والاقتصادية المرتبطة بالحكم في عصري السادات ومبارك، وأقصى الجميع من ساحة العمل السياسي لصالح احتكار لم ينته إلا عندما أسقطته الجماهير في 2011.

كان الحزب الوطني الحاكم نموذجًا لتنظيم سياسي خرج بقرار من السلطة، ولم يحمل برامج سياسية جادة، ولا كان خروجه للنور وليد معارك أو نضالات أو قضايا، ولم يشغل القائمون عليه أنفسهم بسؤال حول القوى الاجتماعية التي يعبر عنها حزبهم.

قبل اندلاع ثورة يناير كانت الأرقام الرسمية تشير إلى أن أكثر من مليوني مواطن حصلوا على عضوية هذا الحزب، وهو رقم كبير في بلد يحاصر السياسة ويضع القيود على ممارستها.

مع رحيل الرئيس السابق حسني مبارك تبخر الحزب المليوني واختفى، ولم يجد الرئيس الذي سقط من يدعمه من تنظيمه السياسي الذي ترعرع في أحضان السلطة وارتبط بها سنين عددَا، ثم أصدر القضاء في إبريل 2011 حكمًا بحل الحزب دون أن يجد من يعترض أو يطعن على قرار الحل بأي صورة.

ارتبط الحزب بالرئيس، ودعمته الأجهزة الإدارية والأمنية لعشرات السنين، وسيطر على المشهد السياسي تمامًا، لكنه فشل في أن يكون حزبًا معبرًا عن الناس بشكل حقيقي فغاب مع غياب السلطة التي أنشأته ورعته في لحظة انكشاف الحقيقة وإدراك الجميع أن الأحزاب لا تنشأ بقرارات سلطوية.

الجبهة الوطنية التي نحتاجها

يطرح حزب الجبهة الوطنية في مصر نفسه كحزب “يقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية”، ولا ينافس على السلطة بل يدعم الدولة ويساندها، ويؤكد أنه ليس حزبًا معارضًا أو مؤيدًا!

في هذا التعريف الصغير للحزب الجديد ما يخالف معنى ودور الأحزاب السياسية أصلًا.

فالأحزاب تنشأ لكي تنافس على الحكم، وتطرح من الأفكار والبرامج ما يؤهلها لكي تصبح بديلًا سياسيًا للسلطة القائمة، وكل حزب خارج الحكم هو بطبيعته معارض للسياسات القائمة ولديه ما يخالفها ويعدلها ويطورها.

في كل ما نشر عن الحزب الوليد ما يوحي بأنه لا يحمل المعنى الحقيقي للحزب السياسي!

والمؤكد أن ما تحتاجه مصر يتجاوز كل ما هو مطروح الآن.

مصر في احتياج لإسقاط القيود المفروضة على المجال العام، ورفع الحصار المفروض عن ممارسة السياسة، ووقف الملاحقات التي يتعرض لها السياسيون والناشطون أولًا.

في المجال العام المفتوح ما يسمح بخروج الأحزاب إلى النور بعيدًا عن السلطة ورضاها ودعمها.

كل حزب ينشأ عليه أن يعبر عن جماهيره وشرائحه الاجتماعية، ويخوض معها معاركها، ويطرح من الأفكار والبرامج ما يسمح بتحسين السياسات العامة، ليتمكن من المنافسة على السلطة كجزء طبيعي من حق التداول السلمي الذي يكفله الدستور.

لا مستقبل لحياة سياسية “مهندسة” بضوابط وقيود ومعايير يضعها من يظن أن السياسة يمكن إدارتها بهذه الطريقة، وأن الأحزاب يمكن أن تؤثر لمجرد امتلاكها الأموال والإعلام.

الأحزاب إما أن تنشأ من صفوف الناس وتعبر عن قضاياهم وإما أن تختار الانعزال وأن ترتضي بالشكل السياسي فقط بعيدًا عن الجوهر.

هناك طريقان: حرية سياسية تعيد للمجتمع حيويته وتأثيره، أو قيود تنتج تنظيمات “شكلية” لا تضيف جديدًا إلى واقع سياسي محاصر.

وعلى اللبيب أن يختار الطريق الأمثل.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان