الغرب و”تسليح الخمور” بمواجهة العرب والصين!
لم تكن مصادفة أن تتصدر أسئلة جريمي بوين كبير المراسلين الدوليين بهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن موقف القائد الجديد لسوريا أحمد الشرع، حرية المواطنين في تناول الخمر، وهو الخبير الذي قضى نحو 41 عاما مراسلا عسكريا بالقدس والشرق الأوسط.
طرح بوين، 26 سؤالا على قائد العمليات العسكرية لفصائل ثورة سوريا، بعد أيام معدودات من إسقاطه نظام الأسد، وتوليه السلطة في دمشق، ليفتش بسوء نية عن أمور دينية يعلم خطورة الخوض فيها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsاتفاق وقف إطلاق النار في غزة وحرب بلا نهاية
هل فشلت أمريكا في إدارة الأزمات؟!
لماذا تخشى واشنطن منصة “تيك توك”؟!
فالرجل ذو الخبرة العميقة بمنطقة ذات أغلبية مسلمة، والمتابع لحرب التطهير العرقي ضد المسلمين بالبوسنة والهرسك، القرن الماضي، يدرك أن سؤاله يضع محاوره في حقل ألغام. الملفت أن الألغام التي زرعها بأسئلته المحرجة، لم تصدم أحمد الشرع فكان رده تلقائيا بأن الأمر يرجع للقانون الذي سيقره الشعب، وهو ما أثار إعجاب الإعلام الغربي، الذي وجد في إجاباته ثعلب البي بي سي، شخصية مغايرة للصورة النمطية التي شكلها حوله لسنوات جعلته، حتى حين إجراء المقابلة، على رأس المطلوبين بقوائم الإرهاب الأمريكية والغربية.
لم يهتم المذيع الحاصل على عدة جوائز دولية بمواجهة محاوره، حول خطته المستقبلية لإعادة العدالة المفقودة بين شعب متعدد الملل والطوائف، تعرض بدون تمييز للقتل بالأسلحة الكيميائية والكبتاجون، يتلهف لحياة ديمقراطية، في بلد كرس النظام البائد فيه حكما استبداديا غاشما، بقدر تركيزه على موقف نظام الحكم من الخلافة الإسلامية، وحرية الكحول، وسفور المرأة.
وفي تناقض للمذيع مع طبيعته كمسيحي متدين، التي دفعته للعمل سنوات مع الفاتيكان، وإنتاج أفلام وثائقية عن المسيح، وكليم الله موسى، اهتم بالبحث عن سبل اتباع النظام مسارًا لعلمانية الدولة، بما أغرقه في تكرار أسئلته عن الخمور.
قبضة بوين
استطاع أحمد الشرع الفكاك من قبضة جريمي بوين، ولم ينج من منتقديه الإسلاميين المجاهرين برفضهم المطلق للخمور، دون أن يدرك الطرفان أن قضية تناول الخمور، لم تعد محسومة دينيا فقط، بل أصبحت منذ سنوات مطلوب حظرها من قبل خبراء ثقاة حول العالم، لأسباب صحية خطيرة.
فرغم أن الأغلبية العظمى من الأنظمة العربية والإسلامية، تسمح بتداول الخمور رسميا، فإن دراسات منظمة الصحة العالمية تضع الشعوب العربية وشعوب الشرق الأدنى الذي يضم إيران وأفغانستان وباكستان، بين أقل الشعوب استهلاكًا للكحول عالميا، وذلك بنسبة 4٪ فقط من بين تعداد السكان.
يعكس الرقم الذي رصدته المنظمة عبر دراسات امتدت 15 عاما، تراجع عدد متناولي الخمور، إلى أقل من تعداد المسيحيين واليهود وباقي الطوائف بالمنطقة. فمن اليهود من يرفض احتساء الخمر لأسباب دينية، وكثير من المسيحيين يعتبرون الخمور متعارضة مع تعاليم المسيحية، وأكثر الملاحدة والعلمانيين لا يجدون الشجاعة على احتسائها علنا، خوفا من نظرة المجتمع السلبية، ويكتفون بتناولها بأوكارهم الخاصة، مع من يرون أن تجمعاتهم حول كأس الندامة هي بوابة الترقي الاجتماعي والثقافي، والتواصل مع رجال السلطة والمال.
تأتي قارة أوروبا ومعها دول أوراسيا ومنها دول إسلامية جذر الحكم الشيوعي والاستعمار الغربي، بين أهلها شرب الفودكا والكحوليات، على قمة مستهلكي الخمور بنسبة 62٪ من تعداد السكان، بينما تتساوى الصين واليابان وأستراليا والفلبين وفيتنام والجزر الواقعة بينها عدا إندونيسيا، مع دول الأمريكتين الشمالية والجنوبية بنسبة 60٪ من تعداد السكان.
تأتي شبه القارة الهندية، بمن فيها من السيخ والهندوس والمسلمين، مع ميانمار وإندونيسيا وماليزيا وسلطنة بروناي في مستوى منخفض للاستهلاك، بنسبة 28٪ من تعداد السكان، وترتفع المعدل بفارق واحد في المئة أي بنسبة 29٪ في عموم قارة إفريقيا.
الخمور الوطنية
اعتاد الإعلام الغربي أن يبرز صورة أول لقاء بين ثعلب السياسية الأمريكية الراحل هنري كيسنجر وشو آن لاي رئيس الوزراء الصيني، ومن بعدها لقاء الرئيسين ريتشارد نيكسون وماو تسي دونغ 1972، وهم يحتسون كأس الخمور الوطنية “بايجيو” المصنوع من الذرة الرفيعة ويحتوي على نسبة كحول بنسبة 60٪، باعتبارها بداية انفتاح الصين على الغرب.
رسم تبادل الكؤوس، صورة ودودة عن الصينيين، في ذاكرة الغرب، دعمها اتجاه الدولة الشيوعية إلى حرية السوق، وسماحها بدخول الخمور الفرنسية والأمريكية، وإنشاء أكبر مصنع لإنتاج البيرة الألمانية في العالم.
في شعب مدمن على معاقرة الشراب على خلفية اجتماعية وثقافية، تربط بين جلسات الخمور الحميمية والمبالغة في احتسائها وتوافرها على المآدب لإظهار الحفاوة بالضيوف، واقترانها بمكانة وعظمة وثراء المضيف؛ تحولت الخمور إلى صناعة كبيرة بلغ حجمها 340 مليار دولار عام 2024. أظهرت دراسة استقصائية حديثة لوزارة التجارة الصينية، تناول 65.7٪ من الشباب من الجنسين الكحول فيما بين 18 و34 سنة، 80٪ منهم يحصلون على الحد الأدنى لدخل ذوي المؤهلات العليا، بقيمة 10 آلاف يوان شهريا (1396 دولارا أمريكيا). يكشف التقرير عن تناول 82.9٪ من كميات الكحول في بيئات اجتماعية، و57.4٪ أثناء الوجبات، و42.5٪ خلال الاحتفالات.
عندما اتجه النظام مؤخرا إلى دعوة الشباب إلى الحد من تناول الخمور، لمواجهة زيادة السمنة المفرطة بين الرجال والنساء والوزن الذي يصيب مرضاه بوصمة عار اجتماعية، مع وجود دراسات حول تسببها في زيادة الإصابة بالسرطان، بالتوازي مع تشجيع الخمور المحلية، وزيادة الجمارك على الواردة من أوروبا وأستراليا، ردا على عقوبات تجارية تتخذها واشنطن ضد الشركات والمنتجات الصينية، تلزم بها حلفاءها الغربيين؛ تبدلت نظرة الغرب إلى الصين من الصديق المسالم إلى “العدو المحتمل” وفقا للتنصيف الأمريكي الذي أعلنته مؤسسات الأمن القومي مؤخرا.
عندما قدمت الصين الخمور لضيوفها الغربيين لم تكن دولة ديمقراطية على النمط الغربي، ولما اتبعت حرية السوق، لم تتبدل اقتناعات النظام الشيوعي الماركسي بنظام ليبرالي، ومع ذلك تتحول نظرة الغرب إلى الصين وفقا لتطورات المصالح.
فالصين تبدلت وفقا للنموذج الأمني والسياسي الغربي، ولأنها لم تخلع عباءتها وأوجدت البديل المناسب لإثراء حضارتها وامتلكت وسائل الإنتاج التي توفر لها احتياجاتها وقدرتها على الإبداع والتفوق، تذكر الغربيون أن الصينيين يحجمون عن خمورهم ولا يريدون السير في ركابهم، كما يشتهون.
سرطان الخمور
جاء بيان المدير العام للجراحين بالولايات المتحدة، فيفك مورثي يوم الجمعة الماضي، حول نتائج دراسة علمية مطولة، تربط بين استهلاك الكحول وتسببه في إصابة مليوني شخص بالسرطان عام 2024 كقنبلة في بورصة وول ستريت فجرت أسهم شركات الخمور. الدراسة لم تأت بجديد، سوى أنها بينت بالأرقام مدى الارتباط الوثيق بين تناول الخمور، وانتشار سرطانات الثدي والفم والحلق، والقولون والمستقيم والمريء والبلعوم، التي تؤدي إلى وفاة ما بين 100 ألف و200 ألف شخص سنويا، وإن قلت الكميات التي يتناولها الفرد من الكحول أسبوعيا، مثل الذين يمثلون 72٪ من المجتمع الأمريكي.
طالب الجراح العام، بوضع قانون يلزم شركات إنتاج وتوزيع الخمور، بكتابة تحذير على كل عبوة، من الموت بالسرطان. رغم إثبات الدراسة وجود تحول في عادات الشرب لدى الأمريكيين بالسنوات الأخيرة، فإن دعوة الجراح العام، بكافة وسائل الإعلام، لم ينظر إلى خلفيتها الدينية أو على أنها معادية للحريات والنظام الديمقراطي.
لن يغير نداء “مورثي” الصورة الذهنية لدى مدير البي بي سي، وأمثاله حول رؤية المسلمين أو الصينيين للخمور، حتى يتبع أحمد الشرع وكل مخالف لهم ملتهم، على الوجه الذي يريدون، وليس طبقا للأصول الديمقراطية، التي تعكس بصدق رغبة الشعوب في الاحتكام إلى أديانها وأعرافها التي تعتز بأصولها.