سوريا.. حقوق الإنسان والمواطنة أولا
العين على سوريا ومصير ثورتها بعد خلع بشار الأسد، سابع دكتاتور طاغية يطاح به منذ انطلاق قطار انتفاضات وثورات العالم العربي في القرن الحادي والعشرين من بن علي تونس في 14 يناير/كانون الثاني 2011 إلى مبارك مصر وقذافي ليبيا وصالح اليمن وبوتفليقة الجزائر وبشير السودان.
يحمل العدد السنوي لمجلة الإيكونومست البريطانية الرصينة المحافظة “العالم أمام 2025″، أصداء توقعات مراقبين ومراكز بحوث بأن المنطقة مقبلة على المزيد من التحولات والأحداث الكبرى، على غرار سقوط النظام في دمشق قبل نحو ثلاثة أسابيع من نهاية 2024.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرسالة لصديق بغزة انقطعت أخباره
الأمان المفقود في إسرائيل!
ماذا ينتظر غزة بعد وقف إطلاق النار؟
وعلاوة على ما نتوقع من مفعول انكشاف النظام الرسمي العربي، وأعمدته الكبرى تاريخيا، إزاء حرب الإبادة الصهيونية الإسرائيلية الأمريكية على غزة الجارية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وامتدادها إلى حرب إقليمية وإن ظلت تحت السيطرة، تنبه المجلة إلى طفرة جديدة في أعداد الشباب بالعالم العربي المحروم من حقوقه، وعلى نحو خاص العاطلون منهم الأكثر تعليما وانفتاحا على العالم، ومن شأن ذلك الإطاحة بحكام وحكومات على غرار ما حدث قبل نحو 14 عاما.
شكوك ومخاوف
ووقائع وتحديات
في هذا السياق تأتي أهمية ما يجري وسيجري في سوريا ولثورتها. وثمة سيل من دراسات مراكز بحوث بمجلات أجنبية، يضع سيناريوهات بعد سقوط الأسد. ولا تخلو تلك السيناريوهات من السيّئ والأسوأ، مع مراوحة بين الشكوك والبرغماتية إزاء القيادة الجديدة القادمة إلى حكم دمشق تحت راية “هيئة تحرير الشام”، وبخلفيات “جبهة النصرة”، وظلال “القاعدة” و”داعش”.
وهناك مخاوف تعبر عنها شخصيات سورية متباينة التوجهات كان لها نصيب على مدى عقود في الثورة وانهياره النظام.
صحيح أن الأمور لا ينبغي أن تؤخذ بالشبهات أو النيات أو الشعارات أو أمراض الإسلاموفبيا، وتصفية الحسابات بين النخب وبأحكام التعميم المطلقة، أو حتى بما كان.
لكننا أصبحنا أمام ملاحظات سلبية وانتقادات حول اختيار مسؤولين في إدارة المرحلة الانتقالية الحالية، وبعض الممارسات، وليس التصريحات فقط. ومن الخطأ ألا نبصر ونعي، ونفكر فيها وننتقدها.
فوق كل هذا فإن أي سلطة في دمشق الآن تواجه تحديات معيشية كبرى ملحة، لن تعالجها الشعارات والخطابات والمسكنات باسم أي أيديولوجية أو دين أو مذهب. وتمتدّ هذه التحديات من حاجة 70 في المئة من الشعب إلى المساعدات الإنسانية وتفشي البطالة وغياب خدمات الصحة والتعليم وإعادة اللاجئين والنازحين، إلى 17 قاعدة غير المرافق العسكرية الأجنبية، وتنظيمات مسلحة تستند لاختلافات مذهبية دينية وقومية وطائفية تشغل ثلث خريطة البلد، وتوسع الاحتلال الإسرائيلي وتبجحه.
ولا يقل تحديا عن ذلك أن سوريا، كغيرها من الدول العربية، ضعيفة الإرث والممارسة في مضمار احترام الحريات وحقوق المواطن وتداول السلطة سلميا، وبالتالي فهي عرضة لإعادة إنتاج دكتاتور جديد، ولو حمل رايات تختلف عما كان عند الأسد.
بالمقارنة مع تونس ومصر بعد الانتفاض المجهَض على الاستبداد والفساد تطرح سوريا اليوم سؤال التحدي: هل بإمكان مجتمع لا ينعم بتجانس البلدين سكانيا ودينيا ومذهبيا وطائفيا أن ينجح فيما أخفقا فيه من إنجاز التغيير والانتقال إلى الديمقراطية؟ أم أن اللاتجانس وتعدد الخصائص الديمغرافية السكانية من شأنه أن يجبر أي سلطة تمسك بالعمود الفقري للدولة ومركزها على السماح بحريات وديمقراطية، لكي تبسط السيادة على كل التراب الوطني، وتحوز الاعتراف والقبول لدى مختلف المواطنين؟
ما الذي يربك
ويعرقل التقدم؟
للاعتبارات السابقة، ومن موقع جبهة متسعة للطامحين للتغيير والتحرر من الاستبداد والفساد والاستعمار والصهيونية لا تهمش ولا تقصي ولا تستأصل، يربك ويعيق التقدمَ إلى الأمام أخذُ كل من يرفع شعار إسلاميا أو ينتمي لأي من تعبيرات الإسلام السياسي بشبهات ومظان وأحكام مسبقة تقول بمخاصمة الديمقراطية والحريات والحقوق والنساء وغيرها.
وأيضا يربك ويعيق التقدمَ خطابٌ بين إسلاميين بدورهم أخذوا في اقتفاء كارثة مصر وتونس، بوضع عصا الصراع حول الهوية الدينية والمذهبية في عجلات الثورة والتغيير والتقدم نحو دولة القانون والمواطنة والحريات والحقوق والديمقراطية. وكذا التغطية على ما يجري من السلطة القائمة بدمشق، وقطع الطريق على أن نرى غير ما هو إيجابي.
الحقيقة أن قول الطرف الأول غير صحيح ولا دقيق ولا منزه عن الغرض والهوى، وبخاصة مع اعتماد التعميم واستباق الأفعال. وتماما كحال الطرف الثاني، الذي يسكره اليوم خمر “فتح دمشق” بسلاح الشرع/ الجولاني سابقا وتنظيمه، عندما يذهب إلى “أن أعطوا الإسلاميين فرصة كي يحكموا”. وكأن لم يجر من قبل حكم العديد من المجتمعات العربية وغيرها باسم الإسلام، وسواء في السودان وغيرها من دول بامتداد التاريخ الحديث والمعاصر وما قبله من قرون، وليس فقط ضياء الحق الدكتاتور الجنرال الإسلامي، المتحالف مع واشنطن والناتو.
كي تصبح سوريا الحبيبة أمامنا نموذجا هاديا ملهما ونبراسا للتغيير والارتقاء بحياة الناس والتقدم والديمقراطية والقطيعة مع الاستبداد والفساد وحكم الفرد، فهي بحاجة إلى هدنة طويلة مع الصراع حول الهويات والأيديولوجيات، واعتباره الأولوية. وتحتاج إلى النظر وسلامة النظر، وتصحيح أي خطأ من البدايات.
ولتجاوز أخطاء الأشقاء وتجنب إساءة جديدة لا نتمناها للإسلام، ثمة حاجة إلى التعافي من الاعتقاد بأن الأغلبية الدينية أو المذهبية أو الطائفية لديها الحق والمشروعية في ترجمتها إلى أغلبية سياسية، تفرض الدساتير والقوانين بسطوة وقوة وسلطة الصندوق وعدد المقاعد أو بكاريزما زعيم وإنجازاته، أو الظن بأن الأغلبية بالانتخابات مستقرة دائمة أبدا، مثل استقرار الخصائص السكانية الديمغرافية بشأن الديانة وغيرها. فكل هذا من مخلفات ما قبل الدولة الحديثة والمواطنة، بل ما قبل السياسة والديمقراطية.
سوريا التي نتمناها
لست بحاجة إلى تكرار ما يقوله عقلاء مختلفو التوجهات بأن سلامة وخلاص سوريا في احترام تنوع أهلها، لا بالاستبعاد والتهميش والإقصاء والاستئصال، أو الغلبة والتجبر بالسلاح وباستفتاءات وانتخابات تنتقص من حقوق وحريات الأقلية والجماعات والأفراد، أو ادعاء خيرية وأفضلية سوريين عن سوريين باسم أي اعتبار أو اعتقاد. فلا أفضلية في الحكم والسياسة والدولة إلا بالعمل من أجل الوطن والمواطنين بدون تمييز، وبانتخابات حرة تعددية نزيهة، في سياق شامل من الحريات. وبالطبع لمن يتقبل العمل مع المختلفين في دولة قانون لجميع مواطنيها.
الأولوية لحقوق الإنسان والمواطنة، إلى جانب المعالجة الجادة ودون تأخير لقضايا التنمية والعدالة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
تحتاج سوريا اليوم قبل الغد إلى الإسراع للانضمام إلى المعاهدات والاتفاقات الدولية الضامنة للحريات والحقوق الجماعية والفردية، بما في ذلك مناهضة التعذيب والإخفاء القسري، ولعضوية المحكمة الجنائية الدولية، وبضمانات ملزمة رادعة لكل سلطة مهما كان لونها كي تنصاع لها، وتحاسب حسابا عسيرا على انتهاكها.
سوريا نتمنى لها أن تلحق بهذا الزمان والعصر، وبما حققته الشعوب وقواها الحية من إنجازات لصالح الإنسان. لا أن تتعثر في ماضيها وماضينا وانقساماته وصراعاته الماضوية البائسة والدموية.
نتمنى لها ألا تخاصم ما هو إيجابي في هذا الماضي أو تصادمه، بل تراه بعين موضوعية ونقدية، وبرؤية متسعة تحترم التنوع والعصر. وتتطلع بالأساس إلى تحديات الحاضر وآفاق المستقبل، لا أن تتهرب منه. ولأن الدرس المهم منذ 2011 أن تحسين واقع الناس المعيش لا يحتمل التأجيل، فالشعارات الدينية أو غيرها لا تطعم، ولا تغني عن إهدار كرامة وحقوق مواطن واحد.
أما التلكؤ والمناورة بدعاوى “الخصوصية” و”السيادة” و”الأفضلية” و”الزعامة” فتعيدنا إلى مربع طغاة لاحقوا إسلاميين وغير إسلاميين، وانتهكوا كل الحقوق، ومنعوا الحريات بالمزاعم نفسها. وقالوا صراحة إننا خارج منظومة حقوق الإنسان الكونية، لا تصلح لنا، ولا تنسجم مع خصوصية مجتمعاتنا.
الاهتمام بحقوق الإنسان والمواطنة أولا، قبل وضع الدساتير وترتيبات من يشغل سلطات الدولة وصلاحياتها وكيف يكون ذلك، هو الطريق الأجدى والأقرب للتحرر الاقتصادي والوطني، ولمنع إعادة إنتاج الاستبداد والطغاة.