القوميون العرب والحاجة إلى النقد الذاتي
التيار القومي واحد من التيارات السياسية والفكرية العربية، وكان هو التيار الحاكم في العديد من البلدان العربية عقب التحرر من الاستعمار وحتى الآن، بدرجات متفاوتة. كان أكثرها بروزا الحكم الناصري في مصر، والحكم البعثي في العراق وسوريا، وجبهة التحرير في الجزائر، وحزب المؤتمر الشعبي في اليمن، وحكم القذافي في ليبيا (قبل تحوله إلى الرابطة الإفريقية واعتبار نفسه قائدا أمميا متجاوزا الحالة العربية)، وحتى دول الخليج نالها من تأثير هذا التيار جانبًا أيضا.
تعرض التيار القومي العربي لنكسات متعددة بدءا بهزيمة المشروع الناصري في مصر بعد هزيمة يونيو حزيران 1967، وهزيمة البعث العراقي بعد حرب الخليج الثانية، وما أعقبها من احتلال أمريكي للعراق، وأخيرا هزيمة البعث السوري عقب انتصار الثورة السورية وسقوط بشار الأسد، وهي النماذج الأكثر تعبيرا عن الفكر القومي العربي، التي دعمت كل الأحزاب والحركات القومية المنتشرة في باقي البلدان بكل وسائل الدعم المالي والسياسي والإعلامي.
الولادة في باريس
من غرائب التاريخ أن فكرة القومية العربية لم تنشأ ابتداء في المنطقة العربية، بل ولدت في باريس عقب قيام طلاب عرب بتأسيس الجمعية العربية الفتاة في العام 1891 كرد فعل على تأسيس جمعية تركيا الفتاة التي تبنت القومية التركية، وتأثرا أيضا بصعود الفكر القومي في أوروبا. وقد عقدت تلك الجمعية المؤتمر العربي الأول عام 1913، الذي مهد للثورة العربية الكبرى التي انطلقت عام 1916، والتي تحركت بالأساس ضد الدولة العثمانية وسياسة التتريك، وهي الثورة التي دعمتها بشدة الحكومة البريطانية آنذاك.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمن «هند» إلى نتنياهو: سنلاحقكم
غزوات الرسول وسرايا القدس 2\2
جريمة الأقصر وذبح المُسن المريض.. لماذا كل هذا العنف؟
العلاقة بين القوميين العرب والديمقراطية غير حميمة، فهم لم يصلوا إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، بل عبر صناديق الذخيرة، ولذلك لم يغضبوا من الانقلابات التي جرت على الإرادة الشعبية، بل كانوا أكبر الداعمين لها، وحين انتصرت الثورة السورية التي تمثل إرادة الشعب السوري فقد القوميون العرب توازنهم، وراحوا يتهمونها بأنها صناعة إسرائيلية أمريكية، متجاهلين تضحيات ونضالات الشعب السوري على مدى 13 عاما من المظاهرات السلمية والاعتصامات وصولا إلى المواجهة المسلحة التي فرضها النظام على الثورة بالأساس وسط ترحيب من هؤلاء القوميين، وزيارات لا تتوقف إلى دمشق من قادتهم لدعم بشار الأسد بينما كانت براميله المتفجرة تفتك بالسوريين، وتحصد أرواحهم. وبينما كان مئات الآلاف يئنون في السجون، أو مدفونون في مقابر جماعية، كان الملايين يهيمون على وجوههم بحثا عن ملاذ آمن داخل سوريا أو خارجها.
رفض الاستعمار ورفض الاستبداد
يحسب للقوميين العرب موقفهم المبدئي المناهض للاستعمار، ومساهمتهم في التحرر منه، وكذا موقفهم الداعم للقضية الفلسطينية والمناهض للصهيونية، لكن هذه المواقف مع كل التقدير لها لا تكتمل إلا بدعم حرية الشعوب العربية الأخرى في الانعتاق من الحكم الاستبدادي، وهو ما فشل فيه القوميون -في معظمهم- حتى الآن مع استثناءات قليلة أعلنت بوضوح أنها لا تعبد القومية ولا الناصرية، وأنها مع حق الشعوب في التحرر من الاستبداد تماما مثل حقها في التحرر من الاستعمار.
الهزيمة النفسية التي يشعر بها القوميون العرب بعد انتصار الثورة السورية، وتبخر نظام بشار الأسد، تشبه تماما تلك الهزيمة التي حلت بالشيوعيين العرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، في الحالتين كانت الأحزاب والحركات القومية العربية والشيوعية تعتمد بالأساس على الدعم الخارجي من أنظمة قومية أو شيوعية. وأتذكر هنا ما نشرته صحيفة الأهرام عن أرقام الشيكات والتحويلات المالية التي كانت تصل من موسكو لقيادات شيوعية مصرية ذكرتها بالأحرف الأولى، كما لا ننسى تمويل أنظمة العراق وسوريا وليبيا لبعض الرموز والكيانات والحركات القومية في مصر أيضا، ومنها قضايا أحيلت للقضاء بالفعل، وتم إغلاقها عبر تسويات سياسية، وهو ما تكرر في دول عربية أخرى.
بين الإسلام والعلمانية
جوهر الفكرة العربية هو الإسلام ذلك أنها تعبر عن شعوب غالبيتها العظمى تدين به مع احترام الأقليات غير المسلمة. لقد كان العرب قبل الإسلام قبائل متفرقة متقاتلة تستمر الحروب بينها عشرات السنين. كانوا كما وصفهم القرآن أعداء فألف الله بالإسلام بين قلوبهم، وكانوا أذلاء للقوتين العظميين (الفرس والروم) فحررهم الإسلام من هذه العبودية، وجعلهم هم السادة حتى دخل أحدهم ممتشقا سيفه على كسرى الفرس ليخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، لكن قوميين عربا في وقتنا الحالي يتنكرون لهذا المكون العقدي الإسلامي في أطروحاتهم التي غلب عليها الطابع العلماني اليساري.
يحتاج القوميون العرب إلى مراجعة تجاربهم (وقبل أن يدعوني بعضهم لتوجيه هذا النصح للتيار الإسلامي أرد بأنني فعلت، وسأكرر ذلك) كما يحتاجون إلى مراجعة مقولاتهم ومواقفهم خاصة تجاه الديمقراطية، وعليهم أن يعلنوا بشكل صريح لا لبس فيه رفضهم للاستبداد؛ قديمه وحديثه، ورفضهم للانقلابات العسكرية وهيمنة الجيوش على السياسة، وأن يعلنوا احترامهم التام لخيارات الشعوب وحقها في التحرر من الاستبداد والاستعباد.