بشير الديك “حريف” الكتابة السينمائية
تعلن مصر عن أول زيارة لرئيس أمريكي إليها بعد انتهاء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وعقب طرد الخبراء السوفييت من مصر، واتجاه الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى الولايات المتحدة التي اعتبر أن 99%من أوراق اللعبة السياسية في الشرق الأوسط لديها، ويقرر الرئيس أن يأخذ ضيفه (الكبير) إلى الإسكندرية عبر قطار السكك الحديدية مارا بكل مدن وقرى مصر.
تنشط المحافظات والمحليات في عمل استقبال للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون على طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية، وفي قرية الضهرية بمحافظة البحيرة تقرر القرية عمل استقبال كبير للضيف الأمريكي الذي يسبقه جزء من المعونة الأمريكية توزع على القرى، وتبدأ أحلام أهالي القرية بالمعيشة الأمريكية الجديدة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمن «هند» إلى نتنياهو: سنلاحقكم
غزوات الرسول وسرايا القدس 2\2
جريمة الأقصر وذبح المُسن المريض.. لماذا كل هذا العنف؟
ينشط أهل السلطة والمحليات في تقديم مظاهر الاحتفال بالزيارة الموعودة، هذا الاستقبال الذي كتب عنه شاعر العامية أحمد فؤاد نجم قصيدته الشهيرة (شرفت يا نيكسون بابا .. يا بتاع الوترجيت) وعن نفس الزيارة كتب الروائي المصري يوسف القعيد روايته (يحدث في بر مصر).
زيارة السيد الرئيس
عن رواية القعيد كتب بشير الديك أحد أبرز كتّاب الدراما السينمائية في مصر خلال نصف قرن فيلم (زيارة السيد الرئيس) من إخراج منير راضي، وهو الفيلم الذي اختفى من شاشات العرض التليفزيوني منذ إنتاجه عام 1994، ويعد أحد أهم أفلام بشير الديك التي لا تحظى باهتمام المحطات التليفزيونية.
ويشابه (زيارة السيد الرئيس) في نصيبه الفيلم الأول لبشير الديك ومنير راضي: (أيام الغضب)، وأنتج 1989، واشتهرت منه أغنية نجاح الموجي من داخل مستشفى المجانين (اتفضل من غير مطرود). وأيام الغضب يتناول قصة إبراهيم العائد من الخليج بعد رحلة عمل طويلة فيجد أن زوجته وأحد أقاربها قد سرقا (تحويشة عمره)، وحصلا على طلاق غيابي ثم تزوجا، وفي رحلة بحثه عن حقوقه يجد نفسه نزيلا في مستشفى الأمراض العقلية، ويتعرض فيلم الديك/ منير راضي لما يحدث داخل مستشفى الأمراض العقلية من جرائم ومخالفات، وربما لفداحة ما يحدث لا يعرض الفيلم تلفزيونيا.
شخصية العائد من الخارج ستجدها في معظم أفلام بشير الديك التي بدأها عام 1979 بفيلمي: (مع سبق الإصرار)، و(لا يزال التحقيق مستمرا). وبلغ عدد أفلامه خلال مشواره السينمائي 49 فيلما، منهم فيلمان كتب لهم القصة والسيناريو والحوار وأخرجهما وهما: (الطوفان) و(سكة سفر).
في فيلم الطوفان ستجد نفس الشخصية العائد من الخليج (إبراهيم) فقد كل أحلامه في رحلته ولم يحقق طموحه في الحياة، أو طموح زوجته في المال، ويتورط في النهاية في مقتل والدته لكي يحصل على أموال الأرض التي باعها والده لعمه ويريد لوالدته أن تشهد زورا أن عقد البيع مزور. فيلم الطوفان يتناول عديد من الشخصيات: أبناء الأم الذين عانوا من مرحلة الانفتاح وضاعوا في طريق الاستهلاك والأحلام الاستهلاكية التي هي نفس أحلام أهالي قرية الضهرية بحيرة من الزيارة الأمريكية.
رحلة إبداع بشير الديك التي امتدت 54 عاما يمكن وصفها بالناجحة، إذ استطاع أن يقدم تنويعة سينمائية لم يقدر عليها أحد من أبناء جيله لأنه مزج بين النجاح الجماهيري في أفلام كثيرة والإبداع الفني الراقي في عديد من الأفلام.
سنجده أول خمس سنوات من عمله السينمائي يقدم أفلاما ناجحة جماهيريا وتحقق إيرادات سينمائية عالية، وفي نفس الوقت يقدم أفلاما متميزة مع رفاق جيله مثل: (سواق الأتوبيس) مع عاطف الطيب، و(طائر على الطريق) مع محمد خان. وبشير والطيب وخان ثلاثي ظهر وتألق معا فقدم مع عاطف ستة أفلام هي: سواق الأتوبيس، ضد الحكومة، ناجي العلي، ليلة ساخنة، جبر الخواطر، وضربة معلم. ولا نستطيع أن ننسى هذه المرافعة التي كتبها بشير في نهاية فيلم (ضد الحكومة) وأداها ببراعة أحمد زكي (مصطفى)، ولا صرخة نور الشريف (حسن) في نهاية فيلم سواق الاتوبيس، ستجد على الأقل خمسة من هذه الأفلام في ذاكرتك السينمائية.
رفاق الرحلة
قدم بشير الديك أيضا مع محمد خان ستة من أهم أفلامه: (الرغبة) أول لقاء بينما وهو من الأفلام الجماهيرية، ولكنه يقدم معه أيضا: موعد على العشاء، طائر على الطريق، الحريف، يوسف وزينب، ونص أرنب.
ويعتبر موعد على العشاء والحريف من أهم أفلام خان إذ ستجد ملامح شخصيات بشير واضحة حيث صراع جيل السبعينيات وحيرته بين قيم عاشوا طفولتهم فيها، وعالم يجرى في غمار رأسمالية تتوحش عليهم، هذا الجيل الذي صعدت أحلامه مع الثورة المصرية وصدمه الواقع بتغير كبير بعد نصر أكتوبر.
تستطيع أن تنظر إلى النجاح الجماهيري لإنتاج بشير الديك من خلال تقديمه 9 أفلام من بطولة نادية الجندي التي تعد أكثر ممثلة عملت في أفلام كتبها الديك، ستة منها أخرجها نادر جلال هي: الإرهاب، شبكة الموت، مهمة في تل أبيب، عصر القوة، الشطار، وامرأة هزت عرش مصر، وثلاثة أفلام لحسام الدين مصطفي وعاطف سالم. وتأتي مديحة كامل بعد نادية الجندي في عدد الأفلام التي كتبها الديك (ستة أفلام). أما أهم أبطال أفلامه: نور الشريف (ثمانية أفلام)، محمود ياسين (سبعة)، وأحمد زكي (ستة أفلام) يشاركهم في الثنائيات مع بشير الديك: فريد شوقي في مرحلته بعد أفلام الأكشن. ومن أفلامه مع فريد شوقي: (مرزوقة)، (أبو البنات)، (طائر على الطريق)، و(الأبالسة).
توليفة نجاح
تنويعة الأفلام السابقة تعكس الموازنة في التوليفة السينمائية التي صنعها بشير الديك خلال رحلته الطويلة كتبت مشوار واحد من أبرز كُتاب السينما والتليفزيون. لم يترك بشير نفسه ليغرق في أحلام كبيرة تجعله محصورا في نوعية من الأفلام تحقق نجاحا نقديا ولا تحقق نجاحا تجاريا أو تجعله مؤلف نخبة الجماهير، بل كان إذا ألحت عليه فكرة لا تحقق جماهيرية ذهب لينتجها بنفسه مثل فيلميه: الطوفان وسكة السلامة، وقام بإخراجهما بنفسه واستعان بزملاء من جيله سواء فنانين أو فنيين.
قدم بشير الديك مجموعة من الأعمال السينمائية التي تناولت أعمال الجاسوسية في الصراع العربي الصهيوني منها في السينما: مهمة في تل أبيب، وحكمت فهمي. وفي الدراما التليفزيونية قدم الحفار وحرب الجواسيس لصالح مرسي. وقدم بشير الديك أعمالا للدراما التليفزيونية لم يتخل فيها عن نظريته في المزج بين الجماهيرية مثل: أماكن في القلب، درب الطيب، والناس في كفر عسكر، والأعمال التي تتناول قضايا هامة مثل: ظل المحارب، عابد كرمان، الحفار، ووصل عددها 13 عملا للدراما التليفزيونية.
كتب بشير الديك الذي ولد في يوليو/ تموز 1944، وتوفى 31 ديسمبر الماضي 62 عملا دراميا لشاشة السينما والتليفزيون، وخلال هذه الرحلة لم يكتب مشهد نهاية حياته حينما تعرض الديك وأسرته لتجارة المستشفيات الاستثمارية إذ تركوا الرجل يعاني من آلامه في أيامه الأخيرة حتى اضطرت ابنته إلى توجيه رسالة عبر التواصل الاجتماعي من أجل إنقاذ والدها من “استثمار المستشفيات” في مرضه!
لقد كانت قضايا الصراع مع الرأسمالية، وقيم الاستثمار وما يعانيه المصريون من نتائج ما حدث عقب زيارة الرئيس الأمريكي هي قضايا بشير الديك ورفاقه وكان رحيل معظمهم معاناة من هذه السياسات التي حلت بمصر في 1974 وما بعدها.