“سلالم الصحفيين” تواجه احتكار التحاليل الطبية بلا مظاهرات!
يرتدي محمد الجارحي نظارة طبية، لتعالج قصر النظر الوراثي، لكنه لا يحتاجها أبدًا، عندما يتعلق الأمر بمهارته المكتسبة في التمحيص وكشف المخالفات حيث تتحول عيناه المرهقتان دومًا إلى منظار مكبر يفضح أوضاع فساد استقر منذ سنوات في القطاع الصحي بمصر، ووجد ظلاله في مشروع العلاج الذي يشرف عليه كعضو في مجلس نقابة الصحفيين المصريين.
كان صاحب السجل المهني المتميز كصحفي ومعد برامج تليفزيونية، مفاجأة انتخابات مارس 2023 النقابية، عنما فاز بعدد أصوات تاريخي لم يحصل عليه أي مرشح يخوض الانتخابات لأول مرة على مقاعد العضوية بعد أن زاحم بأصواته من هم أقدم منه في المهنة والنقابة بعقدين على الأقل حيث حصل على 2015 صوتًا في جمعية عمومية ناهز حضورها خمسة آلاف صحفي.
يناير الثورة والمستشفى
لكونه صاحب تجربة فريدة في القطاع الطبي والعمل التطوعي كان طبيعيًا أن يتولى محمد الجارحي المولود في محافظة الشرقية والذي درس الأدب الإنجليزي في جامعة الزقازيق، ملف مشروع العلاج في النقابة التي تضم أكثر من عشرة آلاف عضو.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمن «هند» إلى نتنياهو: سنلاحقكم
غزوات الرسول وسرايا القدس 2\2
جريمة الأقصر وذبح المُسن المريض.. لماذا كل هذا العنف؟
بعد ثورة يناير 2011 التي شارك فيها فقد الصحفي الشاب رضيعه بعد رحلة مرض استمرت عامين عانى خلالهما من العجز عن توفير سرير في الرعاية الفائقة لابنه، فاعتزم إنشاء مستشفى للعلاج المجاني وبدأ لسنوات في جمع التبرعات عبر “مؤسسة مستشفى 25 يناير”، في مسقط رأسه بقرية الشبراوين (90 كم شمال شرقي القاهرة)، واستطاع بأسلوب الإقناع الهادئ، ووضوح الرسالة، واستقامة القصد أن يضم لمجلس إدارة المؤسسة تحالفًا قويًا من وزراء سابقين وأطباء مشهورين ورجال أعمال ليكونوا روافع للمشروع الخيري الطموح.
المراجعة والاكتشاف
بعد أشهر من تولي مسؤولية مشروع العلاج قام بمراجعة العقود التي أبرمتها النقابة خلال المجالس السابقة وقام بمطابقتها مع ما يتم تنفيذه فعلًا على أرض الواقع، وكان أن اكتشف أن النقابة وقعت مع أكبر ثلاثة معامل للتحاليل الطبية عقودًا بأسعار محددة لكن هذه المعامل قامت برفع الأسعار بالمخالفة للعقود دون أن تحرك النقابة ساكنًا منذ سنوات، وكانت الحجة أن هذه المعامل تستحوذ على الحصة الأكبر من سوق التحاليل ولا غنى للنقابة عنها، ولا حيلة لها أيضًا أمام إصرار هذه الكيانات الاستثمارية الضخمة على رفع الأسعار وفرض منطقها المتعالي في المخاطبات الموجهة للنقابة.
التفاوض والتحالف
قبل عام من الآن دخل الصحفي العنيد في تفاوض مع المعامل الثلاثة متسلحًا بوجوب تنفيذ العقود دون زيادة، لكن الحاصل أن عدم اعتراض النقابة على أي زيادة قبل ذلك وصمتها وقلة حيلتها كان نقطة ضعف في المفاوضات حول زيادات الأسعار في بداية عام 2024، لكنه اكتشف أن هناك قائمتين مختلفتين للأسعار منذ 2018 الأولى مخصصة للمهن الطبية والثانية أعلى لباقي النقابات، فتمسك بوجوب تطبيق الأسعار المعتمدة من اتحاد نقابات المهن الطبية على الجميع، وكان أن نجح بداية 2024 في تثبيت الأسعار دون زيادة باعتبار أن الزيادة المقررة قبل سنوات غير قانونية وتمت بطريقة تتسم بالخداع والالتفاف.
في الطريق إلى الأزمة طرأت له فكرة تشكيل تحالف من النقابات المهنية غير الطبية للدفاع عن مصالح أعضائها وحقهم في أسعار عادلة، فعرض فكرته على نقيب الصحفيين خالد البلشي الذي تحمس وتواصل فورًا مع طارق النبراوي نقيب المهندسين وعبد الحليم علام نقيب المحامين واتفقوا على اجتماع تنسيقي لتوحيد المواقف والحصول على خدمة طبية بأسعار عادلة، تطبق في عام 2025 وهو ما تم بالفعل.
محاولة الاختراق
حاولت المعامل الثلاثة زيادة الأسعار في عام 2025 ورفضت تطبيق الأسعار المعتمدة من اتحاد نقابات المهن الطبية كما انزعجت من اتفاق النقابات الثلاث على توحيد موقفهم والحصول على أسعار واحدة وعادلة، وحاولت عمل اختراق باتفاقات فردية، لكن المعامل الثلاثة التي تحصل على نحو 200 مليون جنيه (4 ملايين دولار) كعوائد سنوية من نقابات الصحفيين والمحامين والمهندسين وفقًا للجارحي فوجئت بموقف صلب لم يستجب للإغراءات بمعاملة تفضيلية لكل نقابة بعيدًا عن الاتفاق الثلاثي، كما جلب إعلان أحد المعامل تقديم الخدمة لأعضاء النقابات المهنية بموجب بطاقة العضوية بأسعار “مميزة” دون اتفاق على الأسعار ردود فعل غاضبة لدي أعضاء النقابات والجمهور العام حيث اعتبر التفافًا على محاولة النقابات الحصول على حقوق أعضائها.
الاستقصاء يتدخل
دعا “الجارحي” الصحفيين لإجراء استقصاء حول ملاك المعامل التي تلتهم مجتمعة ثلث ميزانيات العلاج في النقابات الثلاث وبعد أن نشر أسماء المعامل تدفق سيل من المعلومات التي لم تكن معروفة لولا هذه الأزمة، منها أن اثنين من المعامل الثلاثة تمتلكهما شركة مسجلة في جزر “فيرجن” (العذراء) البريطانية والتي تعتبر أحد الملاذات الضريبية التي تلجأ إليها رؤوس الأموال الراغبة في التهرب الضريبي من بلدانها الأصلية وذلك وفقا لفريق “متصدقش” الاستقصائي، بينما كشف الباحث الاقتصادي “وائل جمال” أن الشركة المالكة للمعملين تستحوذ على نصف عوائد القطاع واقتربت أرباحها من نصف مليار جنيه (10 ملايين دولار) وفق أرقامها المعلنة عن عام 2023، في مصر وألمح “جمال” لوجود ممارسة احتكارية بصرف النظر عن المالك ووجوب التحقيق في هذا.
المزايا
وتتمتع الشركات الأجنبية بمزايا عديدة منها تجنب دفع ضرائب على الأرباح وضمان تحويلها إلى الدولار وإرسالها إلى الخارج، فضلًا عن تمتعها بالسرية المالية والقدرة على إمكانية تقليص نسبة الإيرادات الفعلية عبر إضافة مصروفات وهمية، لخفض الدخل دفتريًا، وهو ما تتمع به الشركة المالكة للمعملين.
بدأب وتنسيق مع المشرفين على العلاج في نقابتي المحامين والمهندسين اتفق الفريق الثلاثي مع عدة سلاسل للمعامل على تقديم الخدمة للنقابات الثلاث بأسعار تفضيلية واحدة وتم توقيع عقود مع سبعة معامل ستشارك بقوة في سوق التحاليل من باب النقابات بعد أن كانت تتلمس طريقا بطيئًا عبر خدمات الأفراد، وفي الطريق اتفاقات مع معامل أخرى.
الدور الجديد
لم تعد نقابة الصحفيين المصريين تثير الصخب وتجتذب الإعلام المحلي والأجنبي عبر الوقفات الاحتجاجية على سلالمها التي اشتهرت بها، منذ إنشاء مبناها الحالي قبل خمسة وعشرين عامًا بوسط القاهرة، فقد أصبح المناخ العام غير موات لهذا الدور لأسباب لا محل لتفصيلها الآن.
وبرغم أن “الصحفيين المصريين” من أصغر النقابات المهنية عددًا لكنها من أكبرها تأثيرًا وربما إزعاجًا أيضًا كونها تمثل مهنة مشتبكة أحد مهامها حماية حرية التعبير والدفاع عن الحقوق المجتمعية، وكانت سلالم النقابة أحد مظاهر التعبير الزاعقة لسنوات، لكن يبدو أن إدراكا حدث لوجوب تنويع المسارات وتعبيد مسالك أخرى.
بلا مظاهرات أو وقفات صاخبة أو صامتة سلكت النقابة التي أنشئت عام 1941 طريقا مختلفًا، وهو اتخاذ مواقف حاسمة في قضايا مجتمعية مهمة لها انعكاس على ممارسة الصحفيين لمهنتهم ودلفت إلى بناء تحالفات وشراكات مع مؤسسات المجتمع المدني والمؤثرين فيه، ومخاطبة الرأي العام مباشرة لتوضيح ما أُخفي عنه من حقائق الأدوار والمخططات أو ما التبس عليه بفعل التضليل المتعمد والصوت الواحد والرؤية الفردية.
حدث هذا قبل أشهر عندما قامت نقابة الصحفيين بإعلان موقف رافض للشكل والمضمون الذي طُرح بهما تعديل قانون الإجراءات الجنائية، وكان موقفها كافيًا ليتنبه ولاة الأمر، ويتراجعوا عن تقديم نسخة القانون سابقة التجهيز لمجلس النواب دون حوار مجتمعي حولها، وتُعد الأزمة الحالية امتدادًا للدور الجديد.
الضربة الموجعة
رغم وجود 18 ألف معمل مرخص في مصر إلا أن المعامل الثلاثة التي أثارت الأزمة هيمنت لسنوات على ما يتجاوز 70٪ من سوق التحاليل في القطاع الطبي، وقد كان رفض “التحالف الثلاثي” الإذعان لزيادة الأسعار بشكل مبالغ فيه من المعامل الكبرى، وتوفير البديل عبر اجتذاب سلاسل أخرى لتقديم الخدمة ضربة موجعة لأباطرة احتكار التحاليل الطبية، وظني الذي لا إثم فيه أن الأزمة ستلفت النظر إلى كيفية مواجهة الاحتكار في المجال الطبي بمصر وستجتذب الأزمة ونجاح ثلاث نقابات في تحقيق مكاسب لأعضائها نقابات أخرى بعد أن رأت نموذجًا في المواجهة ستكون ضحاياه منشآت طبية أخرى لن تصمد أمام فضح استغلالها لمستحقي الخدمة سواء كانوا مهنيين أو مواطنين.