الحركة الوطنية الفلسطينية: مرحلة جديدة

بعد الطوفان.. جدول أعمال جديد.. إلى نصر ديغول ومانديلا

أطفال غزة بعد أنباء عن وقف إطلاق النار (الفرنسية)

تسود ضبابية الرؤية خلال مراحل التحولات الكبرى التي تشهدها الصراعات، وبشكل خاص خلال حروب المقاومة. وفي مثل تلك المراحل يكثر اللغو في الإعلام، والهرج في التقديرات. فهناك من يُخرج ما في نفسه -غرضًا أو مرضًا- ليروج لهزيمة الشعوب، وهناك من يتسمر عند تقييماته السابقة، ويظل يتعامل وكأن لا شيء تغير، ومن يخلط بين الإيمان بالنصر وضرورة فهم التغييرات المرحلية وتعديل الخطط والأولويات… إلخ.

وفي مثل تلك الحالات يجب توصيف ملامح المرحلة الجديدة، والبحث عمّا تغيّر، وتحديد مدى تأثيره، كما ينبغي العودة إلى تجارب الشعوب الأخرى، لفهم طبيعة التحولات المرحلية، إذ إن كل تجارب الصراعات شهدت مثل تلك الحالات الضبابية عبر تاريخها.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

ما يجري الآن أن القضية الفلسطينية دخلت مرحلة جديدة، هي مرحلة متصلة بما قبلها من مراحل الحركة الوطنية الفلسطينية، لكنها تمتلك ملامحها الخاصة، تمامًا كما كانت كل مرحلة من المراحل السابقة.

لقد تعرّض الشعب الفلسطيني لخسائر بشرية جسيمة -من المدنيين والمقاومين- كما حقق العدوان تدميرًا ممنهجًا لمقومات استمرار الحياة في غزة. وكذا تشهد الضفة الغربية والقدس محاولة تغيير ديمغرافي متسارعة الخطى.

لكن إسرائيل تعرضت لخسائر غير مسبوقة هي الأخرى، ستؤثر في استمرار بقائها، وليس بقاء نتنياهو فقط.

ليس معنى إصابة الشعب الفلسطيني بهذه الخسائر أن إسرائيل انتصرت، إذ إنها تعرضت لضربات استراتيجية غيّرت وضعيتها، وفتحت الآفاق أمام الشعب الفلسطيني لتطوير حركته وفق رؤى وخطط جديدة.

تلك مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، إذ شهدنا نمطًا جديدًا من التوازن الاستراتيجي -وليس العسكري- غير المسبوق، إذ لطالما خرجت إسرائيل من حروبها مع الشعب الفلسطيني منتصرة ودون إصابات بليغة.

وهي مرحلة تتطلب إدراكًا لحجم التغييرات، على صعيد ما لحق بالشعب الفلسطيني، وبشأن ما يجري في الضفة والقدس، وعلى صعيد ما لحق بإسرائيل، وما ظهر من تغيّر في الموقف العربي والإسلامي، ولِما حدث دوليًّا -شعبيًّا ورسميًّا- على صعيد الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كحركة تحرير… إلخ.

هذا الوضع الجديد -المختلف- يتطلب خططًا وأهدافًا ووسائل مختلفة.

مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني

مرّ الكفاح الفلسطيني بمراحل متعددة، منها ما كان قبل إعلان قيام إسرائيل، وما كان بعده.

بعد نهاية حربَي 1947 و1948، جرت حالة انقطاع في النضال الفلسطيني المنظم والمخطط، استمرت حتى قبيل حرب عام 1967 حين تشكلت حركة “فتح” وبدأت الكفاح المسلح.
جرت وقائع الكفاح المسلح عبر الحدود الأردنية وانتهت بالمغادرة، وتكرر الأمر عبر جنوب لبنان، وخرج عرفات وقواته إلى تونس.

كان النمط السائد هو نمط الصراع مع إسرائيل من المحيط، وكانت الفصائل التي تقود النضال الفلسطيني مكوّنة من التيارات الوطنية واليسارية.

وجرت الانتفاضتان (الأولى عام 1987، والثانية عام 2000)، لتبدأ مرحلة جديدة.

لقد تغيّرت تشكيلة الفكر والتنظيم في الحركة الوطنية الفلسطينية، والأهم أن الصراع عاد إلى داخل الأرض الفلسطينية.

وتمايز في تلك المرحلة الجديدة خطّان:
الخط الذي اعتمدته حركة فتح بقيادة الشهيد ياسر عرفات -ومعها القوى التي قادت الحركة الوطنية خلال المرحلة السابقة- والذي ذهب في طريق التسويات عبر مدريد وأوسلو.

والخط الذي اعتمدته حركة حماس بقيادة الشهيد الشيخ أحمد ياسين -ومعها حركة الجهاد- والذي اتجه نحو المقاومة المسلحة حتى تحرير كل فلسطين، وفق رؤية إسلامية للصراع.

عاد النضال الفلسطيني إلى الأرض المحتلة، لكن وفق انقسام في الحركة الوطنية الفلسطينية.

بعد الطوفان.. جدول أعمال جديد

أنتج “طوفان الأقصى” واقعًا جديدًا، يتطلب جدول أعمال مختلفًا للحركة الوطنية الفلسطينية.

لقد عادت الدول العربية والإسلامية للدخول على خط الصراع، بحكم مصالحها وبسبب التهديدات التي تتعرض لها. وهذا الأمر جوهري في التأثير في إدارة الصراع مستقبلًا.

وهناك تغيير حاسم على صعيد الاشتباك العسكري العربي والإسلامي. لقد توسّع الاشتباك مع إسرائيل وأصبح يشمل سوريا ولبنان واليمن وغيرها، كما دخلت على خط التوازنات وإدارة الصراع دول إسلامية جديدة.

وقد تحقق للحركة الوطنية الفلسطينية هدف الاعتراف الدولي، وهو هدف كان مطروحًا قبل الطوفان.
لقد تحقق هدف الاعتراف الدولي بحق الشعب الفلسطيني في بناء دولة مستقلة، إذ احتضنت شعوب العالم القضية الفلسطينية على نحو لم يحدث من قبل. هذا الاحتشاد الشعبي الدولي يجب أن يكون بوابة لحراك استراتيجي فلسطيني دائم لإنجاز ذات الهدف الذي تحقق في جنوب إفريقيا.

لقد أصبح ضروريًّا وضع خطط لمطاردة قادة إسرائيل أمام المحاكم الدولية، وفي داخل الدول التي تجيز قوانينها ذلك، ضمن عمليات عزل إسرائيل دوليًّا.

وقد اضطربت إسرائيل وانقسمت داخليًّا، وذلك يتطلب جهدًا مخططًا للتأثير في هذا الصراع الداخلي، عبر تغيير حالة التعامل مع إسرائيل ككتلة صمّاء، وعبر اعتماد خط سياسي وإعلامي يتناسب مع تلك الحالة. وقد تابعنا إمكانية النجاح فيما قام به أبو عبيدة.

وحدث تغيير في الضفة الغربية، إذ أصبحت مهددة بالتدمير وتهجير مواطنيها وإنهاء وجود السلطة الفلسطينية، بما سيقلص مساحة الخلافات بين السلطة الفلسطينية والقوى الإسلامية بعد نهاية معركة غزة.

والأغلب أن تتمحور عناوين الفترة المقبلة حول وحدة الموقف الفلسطيني خلف إقامة الدولة، وعزل إسرائيل وملاحقتها دوليًّا، والالتحام والتأثير في داخل مكونها السكاني والأيديولوجي.

إلى نصر ديغول وهو تشي منه ومانديلا

في توصيف المرحلة، فإن غزة وفلسطين في مرحلة انتقالية، والمرحلة الجديدة ستكون مرحلة تحويل الانتصار السياسي إلى واقع. وذلك ما تؤكده المراحل الانتقالية التي شهدتها تجارب الشعوب والدول الأخرى.

وفق تجارب الصراعات وحروب المقاومة، فإن غزة تنتصر -بالمعنى الاستراتيجي- كما انتصر ديغول الذي غادر بلاده بعد احتلالها، وعاد إليها قائدًا منتصرًا، وكما انتصر هو تشي منه الذي قبل بإعلان دولة على نصف أرض بلاده -فيتنام الشمالية- لتعود بلاده منتصرة وموحدة بعد نحو 21 عامًا، وكما انتصر نيلسون مانديلا، الحبيس الذي فاوض وهو سجين، ليخرج من السجن إلى الحكم.

غزة الآن في لحظة شبيهة بتلك التي مرّ بها ديغول بعد أن دخلت قوات ألمانيا النازية باريس وشكلت حكومة “فيشي” التابعة للاحتلال. وكان أن وسعت ألمانيا من أعدائها بعد احتلالها بقية دول أوروبا وهاجمت روسيا، فهُزمت وانتصر ديغول.

وغزة الآن في لحظة شبيهة بتلك التي عاشتها فيتنام بعد أن احتلتها القوات اليابانية مستفيدة من احتلال النازيين لفرنسا. فبعد أن عادت فرنسا إلى استقلالها وجددت احتلالها لفيتنام -بعد هزيمة اليابان- كانت الهزيمة أمام الفيتناميين. لكن الانتصار لم يكن مكتملًا، إذ تدخلت أمريكا واحتلت فيتنام الجنوبية، فاضطرت قيادة فيتنام إلى إعلان الشمالية دولة مستقلة، لتجري معركة كبرى انتهت إلى تحرير فيتنام الجنوبية وعودة فيتنام إلى وحدتها.

كان الوجود الألماني في فرنسا مرحلة انتقالية في الحرب، وكان الاحتلال الياباني مرحلة انتقالية، وكذلك كان تشكيل حكومة فيتنام الشمالية -دون الجنوبية- مرحلة انتقالية، وفي كل تلك المراحل سادت الضبابية، لكن الأمر انتهى إلى انتصار الشعوب.

وغزة الآن في لحظة تستدعي التذكير بتلك التي عاشها نيلسون مانديلا، حين اضطر إلى قبول التفاوض وهو سجين، وحين قبل بالحفاظ على أوضاع البيض المحتلين بعد رئاسته لدولة جنوب إفريقيا.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان