وقفات الحرب على غزة.. انتصار أم انكسار؟!

سهر الناس حتى فجر يوم الخميس، ترقّبًا لأخبار اتفاق وقف الحرب في غزة. وما إن أعلنت القنوات ووسائل التواصل الخبر وبنود الاتفاق –بالقدر المتاح للإعلان عنه– وتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول الموضوع، بدأت مشاعر الناس تُعبَّر عنها بالفرح العارم.
فأكثر من مرة انتظر الناس هذا التوقف، لكن هذا الفرح شابه بعض الأحزان على ما أصاب غزة. بعض هذا الحزن انطلق من قلوب المحبين لغزة وأهلها، ولكن أصواتًا أخرى –ليست محبة للمقاومة– بدأت تسحب النقاش إلى سياق آخر، بأن هذا الوقف جاء بعد خراب غزة، وأن السبب في ذلك مغامرة المقاومة. فهل وقف الحرب كان انتصارًا أم انكسارًا للمقاومة وأهل غزة؟!
غزة تفرح فدعوهم يفرحون
تجاهل المخذِّلون للناس في هذا الوقف للحرب، وبخاصة أصحاب الصوت الزاعق على المقاومة طوال الحرب، بل والمشكّكين فيها وفي قادتها، تارة بأنهم في الفنادق –رغم أنهم تعرّضوا لمحاولات اغتيال عدّة مرات، في غزة وخارجها– والقيادي الذي خارج غزة يفقد العشرات من أهله فيها، ولا يوجد قيادي واحد ليس في عائلته شهداء بلا حصر.
تجاهل هؤلاء أن أهل مكة أدرى بشعابها، وأن الصور التي نُقلت من غزة فور إعلان الاتفاق كانت فرحة للأطفال والشباب والجميع. فبعض الشرّ أهون من بعض، وفي مصر يقولون في مثل هذه الحالات: «قضا أخفّ من قضا»، أي: انقطاع البلاء خير من استمراره، والحرب بلاء كبير حتى لو كنت منتصرًا مظفّرًا.
ولذا كان يقول صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتم فاثبتوا».
فبعض الناس تخصّصوا في تنغيص النفوس، ووأد أي فرحة تصل إليهم. فإذا جاءهم الفرح أو بشائره –ولو كان قليل الحجم وسط ركام هائل من الأحزان والأوجاع– بدؤوا في بثّ الكآبة من جديد.
رغم أن الإسلام أمرنا بالتبشير، وعدم نزع الأمل من نفوس الناس ولو في أحلك الظروف. وبعض الناس تربّى على ذلك بعفوية، ففي مصر هناك شخصيات إذا فرحت أو ضحكت قالت: «يا ربّ جيب العواقب سليمة». وكأن الناس ليس لها أن تفرح ولو قليلًا، ولو جاء الفرح فعليهم أن ينتظروا المصائب!
لكن البعض يفعله تعكيرًا لأجوائهم، وإفسادًا لما هم فيه. والأولى بنا أن نترك أهل غزة يفرحون بالخبر، فليدعهم كل صاحب فلسفة في الموضوع ليفرحوا، فالناس ليس بيدها شيء سوى أن تفرح لوقف الحرب.
المعارك لا تُقيم بالنتائج العسكرية وحدها
من الأخطاء التي نقع فيها في معارك المقاومة –سواء في فلسطين أو غيرها– أن البعض ينظر للمعارك مع المحتل بنظرة عسكرية بحتة: عدد القتلى هناك، وعدد الشهداء هنا، كم التدمير، وكم الخسائر المادية والبشرية.
وهي حسابات لا يمكن إهمالها، فهي في النهاية معايير قياس، لكنها ليست وحدها المعايير التي يُحتكم إليها في حروب الاحتلال.
ورغم أن المعايير المادية والعسكرية ليست كلها لصالح إسرائيل، فإن الأرقام والحسابات تعطي نقاطًا مهمة للمقاومة في هذه الحرب. ففي كل معركة مع الكيان تخرج المقاومة أقوى مما كانت قبلها، منذ أول عدوان، وكان أبو مازن ومشايخ من السلفية المصرية يقولون إن صواريخ حماس: «لا تخرم حائطًا»، ومنهم من سمّاها «بمب العيد».
فماذا عن سلاح حماس والمقاومة الآن الذي معظمه تطوّر بجهود ذاتية داخلية، بأدوات محدودة؟
وهذا يقابله ترسانة عسكرية جبارة إسرائيلية، متاح لها كل وسائل التطوير، فضلًا عن إمداد العالم الغربي بما لديه من خبرات مادية ومعنوية، وكمّ الإمداد الأمريكي المالي والعسكري. بينما غزة لمدة عامين مقطوع عنها حليب الأطفال! أليس هذا المعيار المادي والعسكري لا بد من حسابه؟
معايير معنوية للانتصار والانكسار
أما المعايير المعنوية فلا يُعرف في أي فنّ عسكري إهمالها. فكمّ المكاسب المعنوية التي ربحتها غزة والمقاومة لا يمكن إغفاله.
من ذلك: كمّ التعاطف العالمي من النشطاء الأوروبيين، وسفن «أسطول الصمود»، وكمّ الفضح العالمي للكيان، وهو ما ضغط به ترامب في تصريحاته بأن العالم لم يعد مع إسرائيل، ملوّحًا بذلك بألا يرفضوا الاتفاق لأن خسائرهم المعنوية ليست قليلة عالميًّا.
ومن أهم المكاسب المعنوية التي لا تُغفل: دور الوسطاء الذي لم ينقطع، وهو دور مشكور –قطر، ومصر، وتركيا– وهو ما لا يُعلن في كثير من المواقف، لكن ما من أحد يلتقي قيادة من قيادات المقاومة إلا وتُثني على جهود الوسطاء، وبخاصة مصر.
رؤية المستشرقين لهزيمة غزوة أحد
كثيرًا ما كنت أقرأ في تناول الكُتّاب المسلمين لغزوة أحد، وتُصوَّر على أنها أول هزيمة للمسلمين، وجلّ الكتب الإسلامية تتحدث عن هذه الهزيمة، فاستشهاد سبعين من الصحابة –وعلى رأسهم حمزة رضي الله عنهم جميعًا– خسارة كبرى.
بينما كنت أجد كتابات المستشرقين –ممن لهم خلفية عسكرية أو اطلاع عسكري– ينظرون إلى أحد على أنها لم تكن هزيمة، لأن أهداف قريش من الغزوة لم تتحقق؛ فقد أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، واستئصال شأفة المسلمين، وإنهاء المدينة، ولم يتحقق شيء من ذلك.
بل عادت قريش ولم تشعر بفرحة النصر المظفّر كما تحب، بل عادت بكمّ من العار الأخلاقي تحمله، لم يشاركها فيه أحد.
فما قامت به من الانتقام والتشفّي، والتمثيل بالجثث، حمّلها عبئًا أخلاقيًّا عبر عن هذا العار.
إن أبا سفيان مرّ على جثمان حمزة، فوضع حربته على وجهه، فرآه أحد المشركين فلامه ووبّخه، إذ كيف يفعل الإنسان ذلك بميت وهو معدود من السادة؟! فطلب منه أبو سفيان أن يستر عليه هذا العار، وقال إنه لم يفعل ذلك من قبل، ولن يفعله من بعد.
منذ اطّلعت على هذه الكتابات في نظرتها لغزوة أحد، لم أعد أذهب للمعايير العسكرية وحدها في التقييم. فلا نغفلها، ولا نحصر التقييم فيها، وذلك على كل مستوى في التعامل: في المعارك، والمرض، والمحن، والموت، وكل ما يقابل الإنسان من ابتلاءات، لها عدّة وجوه.
ليس من العقل أن نحصر التركيز والتفكير في معيار واحد، بل لا بد من جمع كل المعايير.
وأعتقد أن هذا التقييم عملت وتعمل وستعمل عليه المقاومة، وهو ما عوّدت عليه جماهيرها.
